بقدر ما تتسبب الأوبئة و الجوائح الكونية من آلام و مآسي للبشرية حيث تزهق آلاف الأرواح أو الملايين و يعاني كثر من عواقب هذه الأوبئة على المستوى الإقتصادي و الإجتماعي إذ تستغرق عمليات التدارك أشهر أو سنوات أحيانا إلا أن المفكرين عادة ما تكون لهم قراءة مغايرة أكثر إستشرافية و عمق حول تأثير هذه الأزمات على مستوى أبعد من نظر العامّة.

من ذلك، لم يشذ المفكر الفرنسي المثير للجدل في الأوساط الفكرية الفرنسية عن هذه القاعدة حيث كانت له رؤية لتداعيات هذه الكارثة الإنسانية بعيدا عن التفكير داخل الصندوق.

المفكر والاقتصادي الفرنسي وعالم الاجتماع الذي شغل منصب مستشار سابق للرئيس فرانسوا ميتران " جاك أتالي " قدم تصورا ورؤية مستقبلية لما سيكون عليه الوضع العالمي بسبب ظهور فيروس كورونا وتداعياته العميقة التي ترتب لحدوث تغييرات جوهرية تلامس كل ما كان موجودا قبل انتشار هذه الجائحة وأهم هذه التغييرات إعادة تشكيل منظومة العولمة بكل مكوناتها الاقتصادية والتجارية والقيمية والفكرية ومراجعة ثوابت المجتمعات الاستهلاكية الكبرى بما يعني أن العالم حسب هذا المفكر سوف يشهد ولادة جديدة تخص النظرة إلى الدولة والحكم والسلطة والسياسة والآليات التي يقوم عليها التنظيم المجتمعي وخاصة إعادة تشكيل الفكر والثقافة والنظرة إلى الحياة التي سوف يغلب عليها الفكر التضامني وتقديم الاهتمامات الاجتماعية القائمة على مبدأ التعاطف والتآزر عوض البنى القديمة من إيمان وقوة وعقل.

يعتبر جاك أتالي أن النتائج الوخيمة التي خلفها هذا الوباء على المنظومة الصحية والاقتصادية والخسارة التي تكبدها العالم بسببه على جميع المستويات والتهديد الجدي الذي يطرحه بانهيار كل الذي بناه الإنسان المعاصر على مدار عقود من الزمن يفرض إعادة التفكير في كل شيء ويفرض كذلك أن ننظر بعيدا في كل الأشياء التي أمامنا وخلفنا حتى نفهم إلى أين يسير العالم ؟

ويرى جاك أتالي أنه على مدى الألف سنة الماضية أدى وباء كبير إلى تغييرات جوهرية داخل أنظمة الأمم السياسية وداخل الثقافات التي تبنى عليها تلك الأنظمة، هكذا فعل وباء الطاعون الكبير في القرن الرابع عشر حيث ساهم في قيام القارة القديمة بمراجعة جذرية لمكانة رجال الدين السياسية ومن ثمة أدى إلى نشوء أجهزة الشرطة باعتبارها الشكل الفّعال لحماية أرواح الناس.

وهو ما أدى إلى ولادة الدولة الحديثة، ومعها روح البحث العلمي، وهذه الولادة تعيدنا في الواقع إلى المصدر نفسه: مراجعة سلطة الكنيسة الدينية والسياسية بعد ثبوت عجزها عن إنقاذ أرواح الناس أو حتى إعطائها معنى للموت، ومن ثمة حلّ الطبيب محل الشرطي، إذ عُدَّ أفضل وسيلة لمواجهة الموت، وهكذا جرى الانتقال من سلطة قائمة على الإيمان الكنسي، إلى سلطة قائمة على القوة، وصولاً إلى سلطة قائمة على القانون.

بمعنى آخر، من شأن الكوارث الكبرى وذات السمات التراجيدية الإنسانية، كفيروس كورونا، أن تضع الإنسان مجدداً أمام الأسئلة الأساسية والمفصلية التي يرى نفسه معنياً بتقديم إجابات حاسمة عنها، إجابات من شأنها أن تعيد تشكيل صورة العالم والحياة مجدداً.

فقوّة الصدمة حسب آتالي التي تحملها اختبارات الكوارث تشكل في الوقت نفسه قوة إيقاظ للوعي، إيقاظ يخرجه من سبات الأنماط السائدة، والمفاهيم المتسيدة، والاعتقادات المهيمنة، إلى فضاءات وعي جديد, وهنا تحديداً مكامن الفرص التي إذا أحسن قراءتها وانتهازها سيصبح الواقع أفضل، وإذا دست الرؤوس في الرمال، فسرعان ما ستواجه العالم كوارث أشد وأدهى.

وفي تصريح سابق مثير لهذا الخبير الفرنسي ، فقد كتب في 2009 ما يلي: "إن جائحة كبيرة، ستفضي أكثر من أي خطاب إنساني أو إيكولوجي، إلى الوعي بضرورة الإيثار".

وتتصور هذه الشخصية المتعددة الأبعاد، فهو اقتصادي ورجل أعمال ومخرج وروائي وموسيقي أن الإيثار الذي يشكل في نظره القاسم المشترك بين البشر، تجلى اليوم في المجتمعات عبر كورونا، حيث يرى الكثيرون أن نجاتهم تأتي من حماية الآخرين. معتبرا أن حماية الآخرين أضحت مصدر سعادة.

ويقدّر أتالي أن ذلك مطلوب في ظل النقاش الدائر في فرنسا حول الخروج من الأزمة، حيث يؤكد ضرورة تركيز جهود الإقلاع على بعض القطاعات التي يدرجها ضمن ما يسميه "اقتصاد الحياة"، الذي يضم جميع القطاعات، التي تكمن رسالتها في الدفاع عن الحياة، والتي تبث طابعها الحيوي في كل يوم من أيام الأزمة الصحية التي يعيشها العالم اليوم.

ويعني باقتصاد الحياة تلك القطاعات المتمثلة في الصحة، والوقاية، وتدبير النفايات، وتوزيع الماء، والرياضة، والتغذية، والزراعة، وحماية المجالات، والتوزيع، والتجارة، والتربية، والبحث، والرقمنة، والابتكار، والطاقة المتجددة، والسكن، ونقل السلع، النقل العمومي، والبنيات التحتية في المدن، والإعلام، والثقافة، والأمن، والتأمين، والادخار والقرض.

ويتصور أن هذه القطاعات مترابطة في ما بينها حيث يذهب إلى أن الصحة تستعمل حفظ الصحة والرقمنة، التي توظف التربية، بينما لا يمكن أن يحدث أي شيء دون البحث، الذي يرتهن له اكتشاف اللقاح والدواء، الذي يعتبر ضروريا من أجل التحكم في الجائحة.

خلاصةً، أتالي يذهب إلى أن الدرس الكبير الذي على الانسانية إدراكه هو أنه إذا أردنا المحافظة على الحياة وهي ثمينة وإذا أردنا للإنسان عيشا أفضل وبطريقة أفضل فإنه علينا أن نسرع في التفكير من الآن في حياتنا المقبلة والتفكير في كل الذي يحتاج إلى تغيير وتبديل حتى نتجنب الكوارث وما يتبعها من أزمات اقتصادية مؤثرة على حياة الإنسان وبقائه فوق هذا الكوكب.