الفلسفة بما هي عمومية المبادئ وأم العلوم اقترنت في التاريخ القديم بعالم الطب وقد اشتهر في ذلك فلاسفة كبار ممن وضعوا أسس ذلك العلم ورسخوا فكرة العلاج، لكن مع الزمن انحسر دورهم وأصبح المجال الصحي متمركزا في المختصين الذي بقوا دائما أشبه بالأرستقراطية الاجتماعية التي اكتسبت بتحصيلها العلمي مكانة بين الناس. في تاريخ الطب قديما كان للفلاسفة رأي بل كانوا أساس العملية العلاجية وكلمة حكيم التي أطلقت عليهم مردّها أساسا للفلسفة، ثم في فترات متلاحقة بدأ الطب يأخذ مسارا خاصّا مركزا على العلوم والبحوث بعيدا عن الفلسفة، لكن أزمة كورونا المستجدة أعادت التداخل بين الطب كمهنة واختصاص والعلوم الاجتماعية والنفسية باعتبارها أدوات تحليل وتفسير لظاهرة فاجأت الجميع وتأثيراتها تجاوزت ما هو صحي إلى ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي.

مع الأزمة الجديدة عاد علماء الاجتماع والنفس والمستقبليات إلى الواجهة. في اللحظة التي بقي العالم أمام واجهة الأسئلة الكثيرة حول المستقبل بعد هذه الجائحة وما يمكن أن تؤدّي إليه عند مختلف الشعوب، صعد باحثو الفلسفة والمفكرون إلى الواجهة في محاولة لتفسير ما يقع من جانبه الاجتماعي، كل أخذ المسألة حسب رؤيته في التحليل لكن أغلبهم ذهب نحو التحليلات المتشائمة خاصة عند المجتمعات المتطوّرة تقف اليوم أمام حالة من العجز عن المواجهة سواء في علاقة بما هو صحي وخاصة في ما هو اقتصادي بما هو محرّك الحياة في تلك الدول.

الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفراي كان ممن تناولوا الأزمة الأخيرة من جوانبها الفلسفية والاستشرافية، معتبرا أن ما يحصل هو تحويل لأوروبا نحو عالم ثالث نظرا لافتقارها إلى قادة لهم برامج واضحة وقد عبر عن ذلك من خلال عودته إلى دراسات وكتابتها نشرها قبل سنوات عندما أشار في كتاب له بعنوان "الانحطاط" أن الحضارة اليهودية – المسيحية تتجه نحو الانهيار وأزمة فيروس كورونا العالمية تندرج ضمن هذا الإطار.

ولد أونفراي في فرنسا العام 1959، ضمن جيل عاش مخاضات كبرى في بلاده والعالم، ومن خلال تبنى شكلا مختلفا في التفكير عبر تبني أفكار يسارية معادية للنهج الليبيرالي الذي سارت فيه سياسة بلاده. يعتبر من أكثر الفلاسفة الفرنسيين كتابة ومن خلال كتبه يحاول أن يستشرف ما يمكن أن يحصل في العالم في السنوات اللاحقة. وهو من المفكرين الذين ينتقدون الفلسفة في مجالها الأكاديمي ويعتبر أن الفلسفة لا قيمة لها دون نزولها إلى عامة الشعب، وهي الفكرة التي أسس من خلالها "الجامعة الشعبية" وفيها رسخ فكرة جديدة للتعلّم لا تخضع للشهادة ومفتوحة لكل الناس دون تمييز وقد نجح أنفراي في تعميم المشروع على مدن فرنسية أخرى بعد نجاح التجربة الأولى في استقبال الكثير من الفرنسيين.

في حديثه عن أزمة كورونا يقول أونفراي إنه كان منذ البدء، على حق حين اعتبر أنّ الفيروس ليس مجرّد وباء طبيّ بل هو أيضاً استعارة. وأضاف "إذا أردت أن أعبر عن نفسي الآن كصحافي، وبالتالي كسياسي، والعكس بالعكس، سأقول: "البقية تأتي".، والبقية في نظر أونفراي ربما هنا أن الحائجة ليست مجرّد حالة مرضيّة قد تكشف خفاياها في فترات لاحقة، بل فرصة. ويتدعّم كلامه من خلال ربطه للفيروس بفئة المتقاعدين عبر تساؤله عن استهدافهم والتأثير فيهم هم دون غيرهم قائلا "لماذا يطيح الفيروس أساسا بطاعني السن الذين ينتمون إلى فئة المتقاعدين؟ وهي فئة تشكّل-في تقدير بعض خبراء الاقتصاد- مجموعة غير نشيطة وتمثّل عبئا على مؤسّسات الرعاية الاجتماعيّة والصحيّة وحتّى على المؤّسسات الماليّة العالميّة". وهنا قد يفسّر الكلام على أن هناك استهدافا لتلك الفئة من الناس للتخفيف على صناديق التغطية الاجتماعية.

في الإطار ذاته يشير الفيلسوف الفرنسي إلى الجائحة كشفت الوجه الحقيقي "المخادع" لأوروبا التي كانت في ذهن الشعوب قوة اقتصاديّة عظيمة، "بعد أن أظهر الوباء كيف أنها بات من المحتمل أن تلتحق بصفوف الإمبراطوريات العالمية الكبرى التي كان مآلها السقوط، بسبب عجزها عن صنع الأقنعة للفرق الطبية التي تستقبل الضحايا"، مشيرا إلى أنه "لا يمكن إنكار حقيقة أن الفيروس عرّى الخيارات الاقتصادية، وبالتالي عرّى السياسة المتبعة في فرنسا انطلاقا من فترة فاليري جيسكار ديستان رئيس الجمهورية الفرنسية من 1974 حتى 1981، إلى فرانسوا ميتران، وصولا إلى إيمانويل ماكرون".

وقد انتقد أونفراي بحدّة في حوار له مع جريدة "لو بوان" الفرنسية القادة الأوروبيين متهما إياهم بالاستهتار وانعدام الكفاءة ومعتبرا أن أوروبا أضحت اليوم "عالما ثالثا جديدا"، معتبرا أن هذا الفشل هو فشل للمنظومة الليبرالية بشكل عام في ظل تفكيرها في الاقتصاد دون أخذها في الاعتبار الإنسان، بل حتى تفكيرها في المال لم يمكنها من التحكم في الأزمة بعد العجز عن مواجهة ارتفاع عدد المصابين والفشل في توفير سبل الحماية والاضطرار إلى مساعدة الصين التي تتعايش من مليار وثلامئة مليون نسمة.

الفيلسوف الفرنسي تحدّث في أكثر من فضاء عن التأثيرات المتوقعة للفيروس، فأشار إلى أن العالم اليوم يقف عاجزا على المواجهة، ورغم أن التوقعات كانت تذهب دائما نحو التأثير الصحي، لكن المفاجأة أن الأثر كان حتى في الجانب الاقتصادي والنفسي.

أونفراي في "الانحطاط"، الذي يبدو كتابا مزعجا للأفكار الغربية التي اعتقدت ديمومة هيمنتها على العالم، استبق أزمة كورونا بأن الغرب يعيش امتحان النهاية وذهب إلى توجه أوروبا نحو الانهيار، ربما بالتفكك أو بالتراجع الاقتصادي، وما حصل من ردة الفعل الإيطالية تجاه الجحود الأوروبي ربما يذهب في ذلك الاتجاه، فانتشار كورونا كشف أن تفوق أوروبا العلمي والاقتصادي وحتى الفكري لم يشفع لها أن تكون في موقع القوة في المواجهة.

ربما تحليلات الفيلسوف الفرنسي ذهبت إلى الأقصى في النظرة إلى مستقبل أوروبا، وربّما لن يحصل ما ذهب إليه قريبا، لكن الحرج الذي تعيشه القارة العجوز في ظل الجائحة، طرح بالفعل قصور فكرة الوحدة الأوروبية والتفوق الفكري والاقتصادي اللذين يبدوان على محك الاختبار مع ظهور نزعة الأنانيّة التي تعتبر من مؤشرات "الانهيار" التي تناولها أونفراي.