أثار فيروس كورونا بنسقه السريع في الانتشار وظهوره المفاجئ، ووقوف العالم عاجزًا أمام علاجه، وتحويل حياة الملايين من البشر على وجه الأرض إلى حجر صحي إجباري وتعطيله لمعظم الأنشطة الاقتصادية في العالم، أثار مجموعة كبيرة من الأسئلة الفلسفية بأبعاد علمية واجتماعية واقتصادية وحتى أخلاقية ونفسيّة. يبدو فيروس كورونا من اللحظات الكبرى والمهمة -وربّما المفصليّة كذلك- في تاريخ البشريّة، ويحتاج لقراءات فلسفية عميقة خاصة في ما قد يطرحه من تحولات اجتماعية أو على صعيد النظام العالمي نفسه.

يورغن هابرماس، الفيلسوف الذي يطاول القرن من العمر، وأحد رموز مدرسة فرنكفورت الفلسفية، كان أحد هؤلاء الذي ظلّ العالم ينتظر قراءاتهم لهذه الجائحة وتأثيراتها الفلسفية والاجتماعية العميقة على البشريّة. وبالرغم بقائه صامتا لمدّة طويلة في الفترة الماضية، غير أنّ حواره مع صحيفة لوموند الفرنسية استقبل باحتفاء واسع، وتم تناوله بالتحليل والنقاش بين مختلف الفاعلين الثقافيين في اوروبا والغرب وتداوله على نطاق واسع عبر الإعلام الغربي.

يرى هابرماس في هذا الحوار أنّ هذا الوباء، من وجهة نظر فلسفية، "يفرض اليوم، في نفس الوقت وعلى الجميع، تحديا فكريا كان، حتى الآن، من اختصاص الخبراء".

وأشار هابرماس أنّه "يتعين علينا أن نتصرف واضعين نصب أعيننا محدودية معرفتنا"، حيث "تبيّن لجميع المواطنين في هذه الأيام كيف يجب على حكوماتهم اتخاذ قرارات واضعة نصب عينيها محدودية معرفة علماء الفيروسات الذين يقدمون لها المشورة". مؤكّدًا أنّه "سيكون لهذه التجربة غير العادية في أدنى الحالات أثرها على الوعي العام" بحسب تعبيره.

من أبرز التحديات الفكريّة على الصعيد السياسي والتنظّم الاجتماعي التي طرحتها جائحة كورونا، هو تلك العلاقة الجدليّة بين الدّيمقراطية وإجراءات الحجر والإجراءات المتعلقة بمكافحة هذا الوباء في شكلها الاستثنائي، قال هابرماس: "يجب أن يظل تقييد حقوق كثيرة مهمة تتعلق بالحرية محدودا جدا زمنيا. لكن هذا الاستثناء هو في حدا ذاته مطلوب، كما حاولت أن أبين، بما تفترضه تأمين الحق الأساسي في الحياة والسلامة الجسدية من حيث هو ذو أولوية".

** التحديات الأخلاقية التي يطرحها الوباء:

وفي إجابته عن التحديات الأخلاقية التي تثيرها هذا الوباء، قال الفيلسوف الألماني إن "الخطر الذي يشكله عدم قدرة وحدات العناية المركزة على استقبال الأعداد الهائلة للمرضى في مستشفياتنا – وهو خطر تخشى دولنا، وقد غدا واقعا ملموسا في إيطاليا – يفترض سيناريوهات طب الكوارث التي لا نلجأ إليها إلا أثناء الحروب".

مضيفًا أنّه "عندما يتم استقبال أعدادا هائلة من المرضى بحيث تعجز الوحدات الاستشفائية عن توفير العلاج الضروري لهم، يضطر الطبيب حتمًا إلى اتخاذ قرار مأساوي، لأنه في جميع الحالات لا أخلاقي. هذه هي الطريقة التي ينشأ عنها إغراء انتهاك مبدأ المساواة الصارمة في المعاملة بقطع النظر عن الوضع الاجتماعي أو الأصل أو السن، وما إلى ذلك، كأن نضحي بكبار السن من أجل إنقاذ حياة الشباب".

وتابع هابرماس قائلاً أنّه "حتى لو وافق المسنون على ذلك يحدوهم في ذلك حس أخلاقي قوامه نكران للذات يثير الإعجاب، فمن هو الطبيب الذي يسمح لنفسه بأن “يقارن” بين “قيمة” حياة شخص و “قيمة” حياة شخص آخر وأن يقرر من يجب أن يحيا ومن يجب أن يموت؟ إن خطاب “القيمة”، المستعار من مجال الاقتصاد، يشجع على القياس الكمي الذي يتم من وجهة نظر الملاحظ. ولكن لا يمكن التعامل مع استقلالية الشخص على هذا النحو: لا يمكن أخذها في الاعتبار إلا انطلاقا من منظور آخر، حين نكون وجها لوجها مع هذا الشخص. ومن ناحية أخرى، تُبين الأخلاقيات الطبية عن توافقها مع الدستور وتلبي مبدأ ليس ثمة ما يبرر “اختيار” حياة إنسان بدل حياة إنسان آخر. وفي الواقع، يملي الدستور على الطبيب، في الحالات التي تسمح فقط باتخاذ قرارات مأساوية، أن يستند حصريًا إلى المؤشرات الطبية التي تؤيد فرص نجاح العلاج السريري المعني بنسبة كبيرة".

وأشار الفيلسوف الألماني أنّه "في انتظار اتخاذ القرار بشأن الوقت المناسب لإنهاء الحجر، فإن حماية الحياة، وتلك مسألة ضرورية لا فقط على المستوى الأخلاقي ولكن أيضًا على المستوى القانوني، قد تجد نفسها في مواجهة منطق الحساب النفعي. عندما يتعلق الأمر بالتحكيم بين الضرر الاقتصادي أو الاجتماعي من جهة والحد من الوفيات من جهة أخرى، يجب على السياسيين مقاومة “الإغراء النفعي”: هل يجب أن نكون مستعدين للمخاطرة بـ ”عدم قدرة “ النظام الصحي على توفير الرعاية للأعداد الهائلة للمرضى، وبالتالي تزايد معدلات الوفيات، من أجل إنعاش الاقتصاد وبالتالي التخفيف من الكارثة الاجتماعية لأزمة اقتصادية؟ تمنع الحقوق الأساسية مؤسسات الدولة من اتخاذ أي قرارا لا يكترث لوفاة الأشخاص الطبيعيين".

** كورونا والتضامن الأوروبي: 

تساءل هابرماس "ما فائدة الاتحاد الأوروبي إذا لم يثبت في أوقات أزمة كورونا الصعبة أن الأوروبيين يرصون صفوفهم ويقاتلون معا من أجل مستقبل مشترك؟" كان ذلك في معرضه ردّه أصلا عن سؤال حول لماذا ترفض أوروبا فكرة إنشاء “صندوق كورونا”، الذي ستؤمن تمويله 27 دولة، الأمر الذي سيمكن من تحمل العبء المالي للأزمة بشكل جماعي؟

يرى هابرماس أنّه "يجب أن تساعد الدول الأعضاء الأخرى الدول الأعضاء المثقلة بالديون والتي تتميز بهشاشة البنية التحتية التي تأثرت بشكل خاص بالأزمة دون أن تكون مسؤولة عنها، مثل إيطاليا وإسبانيا، إذا أردنا إنقاذ اليورو، وبالتالي إنقاذ نواة الاتحاد الأوروبي الصلبة، من ضغط مضاربة الأسواق المالية". 

وتابع الفيلسوف الألماني بالقول: "لا شك في أن اقتراح “سندات كورونا”، الذي دعت إليه فرنسا، كفيل وحده بفرض إجراءات حمائية فعالة في هذا الصدد. وهذه القروض المضمونة على المدى الطويل من قبل جميع الدول الأعضاء في منطقة اليورو هي الوحيدة القادرة على ضمان نفاذ دول الجنوب إلى أسواق رأس المال".

مؤكدًا بالقول: "لا أرى حلاً بديلاً مفيدًا جدًا بمرور الوقت عن هذا الاقتراح. كما أن مناورات تفادي الأزمة التي انتهجها وزير المالية الألماني – التي لا ينبغي على نظيره الفرنسي الموافقة عليها بأي حال من الأحوال – ليست في مستوى تحديات الظرف".

يقول هابرماس أنّه طرح سؤاله (المذكور أعلاه)،على أنجيلا أنجيلا ميركل ووزير المالية أولاف شولتز، و"لكنهما لم يلقيا بالا للأمر البتة؛ وقد ظلا حتى يومنا هذا، متمسكين بعناد بسياسة الأزمة التي اتبعت منذ عشر سنوات ضد احتجاجات دول الجنوب، وفي ذلك مصلحة ألمانيا ودول الشمال" بحسب قوله.

وتابع الفيلسوف الألماني: "توجس معظم السياسيين الألمان خيفة من أن أي موقف يتجه أكثر نحو المصالحة من شأنه أن يثير استياء ناخبيهم الشديد. وبقدر ما أشعلوا هم بأنفسهم فتيل نزعة التمركز حول الذات والتباهي بأبطالنا الذين يهيمنون على التجارة العالمية وأججوها، بقدر دعمت الصحافة هذه النزعة القومية الاقتصادية بشكل كبير. وهناك معطيات تجريبية مقارنة تظهر أن حكومتنا، بهذه النزعة القومية التجارية، لم تفرض ما يتعين عليها فرضه على سكانها معياريا على نحو كاف، وبالتالي التقليل من الحساسية الأوروبية. وإذا كان ماكرون قد ارتكب خطئا في علاقاته مع ألمانيا، فإن خطؤه يتمثل في عدم تقديره، منذ الوهلة الأولى، لإيمان أنجيلا ميركل المحدود بقومية الدولة، والذي يتمظهر في مجالات أخرى".

وإجابة عن سؤال: "أيّة سردية يمكننا أن نصوغها من أجل بث روح جديدة في الاتحاد الأوروبي غير المحبوب وغير الموحد؟". قال هابرماس أنّه "لس للحجج وللحدود المختارة فائدة كبيرة في مواجهة مشاعر الاستياء. وحدها نواة صلبة أوروبية قادرة على الفعل وتقديم حلول ملموسة للمشاكل القائمة يمكن أن تكون لها قيمة كبيرة. وفي هذه المرحلة بالذات علينا أن نكافح من أجل إلغاء النيوليبرالية". 

** كورونا وخطر الشعبوية: 

يرى هابرماس أنّ السؤال عن دور هذه الأزمة في تقوية الشعبوية القومية وكيفي مقاومتها، تختلف الإجابة عنه من بلد لآخر. ففي ألمانيا، بحسب هابرماس "استطاع الماضي الاشتراكي القومي في الوقت الحالي أن يحمينا بقوة من أي تمظهر مباشر لإيديولوجيا أقصى اليمين. ومع ذلك، أغمضت الأحزاب والسلطات السياسية لفترة طويلة عينها اليمنى تحت يافطة معاداة الشيوعية المهيمنة". 

أمّا وفي فرنسا، فبحسب رأيه "كان التطرف اليميني المنظم قوة سياسية، ولكن له جذور أيديولوجية أخرى أكثر مما عليه الوضع في ألمانيا: ليس نزعة قومية عرقية بقدر ما هو كيان مؤسساتي قائم في صلب الدولة. وأما اليوم، فقد تردى اليسار الفرنسي الذي يتمتع بصيت عالمي كبير في متاهة كراهيته الاتحاد الأوروبي". 

وأضاف هابرماس أنّه "على خلاف توماس بيكيتي، على سبيل المثال، من الواضح أن اليسار لم يعد يفكر في مناهضة الرأسمالية بطريقة متسقة – كما لو أنه بإمكاننا محاربة الرأسمالية العالمية أو حتى ترويضها انطلاقا من هذا القارب الواهي وغير المستقر المتمثل في الدولة القومية!".

وإجابة عن سؤال آخر: "كيف تفسرون مدى انتشار الشعوبية القومية في المجال الفكري والفضاء العمومي الأوروبي؟". أجاب الفيلسوف الألماني بالقول: "قد يكون لشعبوية اليمين “الفكري” ادعاءات فكرية، ولا تعدو أن تكون إلا كذلك. فالأمر يتعلق ببساطة بتفكير واهٍ. ومن ناحية أخرى، فإن شعبوية اليمين “العادي”، التي تمتد إلى ما هو أبعد من الطبقات الفقيرة والمهمشة من السكان، حقيقة يجب أن تؤخذ على محمل الجد".

وتابع بالقول: "في الثقافات الفرعية الهشة، تؤثر العديد من العوامل المحفزة وبالتالي المقلقة على تجارب العالم المعاصر: التحول التكنولوجي، والرقمنة التي يشهدها مجال العمل، وظاهرة الهجرة، والتزايد المستمر لتنوع أنماط الحياة، إلخ. ترتبط هذه المخاوف، من جهة، بالخشية الواقعية تماما من فقدان المرء وضعه الاجتماعي، ومن ناحية أخرى، بتجربة العجز السياسي".

مضيفًا: "لكن آثار شعبوية اليمين، التي تدعو، في كل أنحاء الاتحاد الأوروبي، إلى التمترس خلف الحدود القومية، تنعكس، في المقام الأول، في أمرين: الغضب الناجم عن حقيقة أن الدولة القومية فقدت قدرتها على الفعل السياسي ونوع من رد الفعل الدفاعي الحدسي في مواجهة التحدي السياسي الحقيقي". 

وتابع الفيلسوف الألماني قائلا: "ولعل ما يعوزنا قطعا هو الاعتراف بأن تجاوز هذا المأزق ما بعد الديمقراطي يكمن فقط في أوروبا موحدة ومنتصرة لديمقراطيتها وفي اتخاذ هذه الخطوة بكل شجاعة".

(اعتمدنا في هذا المقال على النسخة الأصلية للحوار والترجمة العربية لموقع حكمة)