"لقد تغير العالم... وغدا لن يشبه اليوم"، كلمات قالها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، بعد انتشار جائحة كورونا، مكررا ما قاله نظيره الصينى قبله بأيام؛ أما الرئيس الأمريكي الأسبق"هنرى كيسنجر"حسم أمره جازما بأن "فيروس كورونا سيغير النظام العالمى إلى الأبد". توقعات صدرت عن قادة ومفكرين من جميع أنحاء العالم، تؤكد بجلاء حجم التغييرات القادمة المتوقعة، وأن عالم ما بعد كورونا لن يكون كسابقه، فما الذي يمكن أن يتمخض عنه وباء فيروس كورونا الحالي عندما ينقشع ظله من إعادة تشكيل الحياة وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية.
 
 كذلك في منطقتنا العربية، عمل مفكرون وفلاسفة وأدباء على استشراف سمات عالم ما بعد كورونا، مستهدفين الوصوللصياغة سياسات مناسبة للتعامل مع هذا المستقبل الغامض، مع تأكيد وإجماع على أن ما كان مألوفاً حتى فبراير ومارس 2020 ربما لن يُرى مرة أخرى.
 
 بداية، قدم أستاذ العلوم السياسية بجامعة بنغازي ومستشار الحقوق والتنمية ببرنامج الأمم المتحدة للتنمية وحقوق الإنسان واستشاري إعادة مؤسسة الهيكلة البرامجية بتونس البروفيسور الليبي ميلاد الحراثي تصورا حول ملامح العالم بعد جائحة كورونا، قائلا:"إن ملامح "العالم ما بعد الجائحة" تمثل  "الدولة الوطنية تزداد قوة وترابطا ولن تخضع للإملاء الخارجي" و "انحسار مفهوم القوة الصلبة واستعمالاتها خارجيا" و"التضامن الاجتماعي يزداد بين مواطني الدولة الواحدة" كما أن "الدولة المركزية تزداد قوة وسيطرة علي مواردها"، مضيفا أن "العولمة ومظاهرها تختفي تدريجيا" بالإضافة إلى أن "صراع الاديان يختفي ويسود الانتخاب الطبيعي للدين الصحيح" كما أن "قوي اقتصادية جديدة سوف تفاجيء العالم".

وأشار إلى "انتقال النظام الدولي من الأحادية إلى التعددية" كما أن "منظومات التعليم والتعلم سوف تتجه نحو ما أفيد وأقرب للإنسان ومواطني الدولة" لافتا إلى "تغير فكرة العدو والأعداء من مفهومها الخارجي إلي المفهوم الداخلي" كما أن "منظومات الدفاع والأمن لها اليد الطولى في استقرار المجتمعات"، لافتا إلى "نهاية أزمنة احتكار العلم والعلوم" بالإضافة إلى "ازدياد ظواهر التخزين لكل المواد الضرورية" و"ازدياد الاهتمام باجتياح الفضاء الخارجي لتأسيس بدائل للأرض للحياة" بالإضافة إلى "الاعتماد الذاتي والاعتماد المتبادل سوف يسود علاقات دول العالم".

كما أشار الحراثي إلى "انحسار دور نظريات توازن القوي وكل نظريات الرعب النووي" و"انهيار نظام (برايتون وود) المالي واختفاء الصناديق المالية السيادية" وكذلك "صعود نظريات جديدة للاقتصاد خارج نطاق العولمة المعهودة"، ولفت إلى أن "العلوم الطبية سوف تقفز في تطورها وسيادتها على بقية العلوم" بالإضافة إلى "صعود مفاهيم وطنية جديدة للصحة والعلاج عن بعد" كما أن "المنظومات القيمية والأخلاقية سوف تدخل إلي مراجعات عنيفة".
 

وسلّط أستاذ العلوم السياسية الضوء على الأوضاع الدولية وطبيعة النظام العالمي، قائلا، إن هناك سيناريو يتقدم حثيثاً لعالم ما بعد الجائحة والتنافس العرقي الكبير، مضيفاأن كل الدلائل، اليوم، تشير إلي التنافس بين عرقين كبيرين ( الأمريكي الأنجلو سكسوني والعرق الأصفر)، وهو نموذج العرق، أو التنافس المعمم بين النماذج الجغرافية السياسية البديلة قد بدأ فعلا، وفي سيناريو أكثر تطرفًا ، يمكن أن تواجه الدول المهمة نوع الصدمة الاقتصادية وارتداداتها، والتي تؤدي إلى انهيار اجتماعي وسياسي واقتصادي واسع النطاق.

وتابع البروفيسور الحراثي: "لقد كانت هناك حجة مفادها أن النظام العالمي الحالي لا يمكن أن يتغير، لأنه مرتبط بالقوة والهيمنة الأمريكية، لأن العالم قد مر بحربين عالميتين ،وتلك الحروب فعلت فعلها في طبيعة النظام العالمي ، ولكن يبدو أن الحروب العالمية مستحيلة اليوم"، مستطردا: "لكن في حالة الجوائح الكبري والكونية مثل الأوبئة - و تغير المناخ الحالي، وعودة السلطة المركزيه للدولة الوطنية، ربما هناك مؤشرين مهمين من مكافآت وظيفية جديدة لقيام حروب من نوع ما"

وأشار أستاذ العلوم السياسية، إلى أنه قد اُتيحت للصين فرصة فريدة للتدخل وتقديم المساعدات ونموذجها العالمي في التغلب علي جائحة القرن، وإعادة تشكيل هذه البلدان في صورتها، مضيفا: "يبدو أن دولًا مثل إندونيسيا وماليزيا وكوبا وايران، وكوريا الشمالية، وجنوب شرق و آسيا، وحتى روسيا، ذات أهمية خاصة في مثل هذا السيناريو"
 
 ورأى الحراثي، أن الجائحة قد تستشرف نظاما اقتصاديا عالميا جديدا، قائلا: "ظهرت الكثير من المؤشرات العالمية لما بعد الجائحة مثلا امريكا تُجبر شركة جنرال موتورز على تصنيع أجهزة التنفس الاصطناعي لمواجهة كورونا فيروس، وماكرون أجبر بالأمر نفسه، وإسبانيا تنشيء مصنعا يقوم بصنع هذه الآلات للغرض نفسه"، وتابع: "هذه معطيات أولية ترسم الصورة التي قد يكون عليها اقتصاد الدول ما بعد كورونا فيروس، وكلها ستحد من العولمة، وتدحرجها، وستكون الصين في موقف تحدي كبير الخاسر الأكبر من جهة والفائز الجديد من جهة، لأنها قد تنهي هيمنة نظام بريتون وودز الذي سيطر على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وتطوير العولمة بوجه جديد وبقيادة مختلفة إلى مستويات جديدة قائمة أكثر على الحلة الجديدة المرتقبة لطريق الحرير وإعطاءه بعدا استراتيجيا جديدا، حيث لن تتخلى الدول عن تطوير البنيات التحتية وستحتاج إلى الصين في هذا الشأن".


 
 وأكمل أستاذ العلوم السياسية: "في ظل الانظار المتسارعة إلى توظيف جائحة كرونا ونظريات الجيوبولتكس إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في العالم ،فإن السؤال الأبرز اليوم ،هو "كيف سيتعامل قادة العالم مجددا مع تعقيدات وتحديات جائحة السياسة الدولية المعاصرة ؟و هل سوف يتم توظيف جائة كورونا الي تشكيل الجغرافيا السياسية في العالم؟

وقال الحراثي إن "معظم الدول واجهت أزمات عالمية من قبل ، من الحروب الصلبة والحروب التاعمة ، إلى الركود الاقتصادي العميق، والأزمة المالية العالمية لسنة 2008، ، وتهديد الحرب النووية والجرثومية الوشيكة، والغزو، واسقاط الانظمة بالقوة، الي نشوء دول وطنية جديدة، والتي غيرت الجغرافيا السياسية برمتها، في السودان واسيا والبلقان، ودول اختفت من الجغرافيا، وحتى الأوبئة العالمية اليوم، الي تطبيقات " الربيع العربي" لسنة 2011، لطالما كانت الكيفية التي يقود بها قادة تلك الدول في الداخل والخارج والقرارات، والمواقف التي اتخذوها ويتخذونها ، خلال لحظات قيادتهم لدولهم، ودورهم في العالم.

 ما هي صفات القيادة التي أدت إلى أفضل النتائج في مسائل السياسة الخارجية والأمن والوطني باسم رعاية المصالح العليا لتلك الدول ومحاربة الارهاب، والتطرف ؟، وكيف سوف يتعامل قادة العالم مجددا مع تعقيدات وتحديات جائحة السياسة الدولية المعاصرة ؟ في ظل الانظار المتسارعه الي توظيف جائحة كرونا ونظريات الجيوبولتكس الي إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في العالم ؟"
 
 وأضاف، "معظم دول العالم سوف تحتاج إلى قروض، أي أن العالم سيحتاج إلى مشروع مارشال شبيه بالذي استفادت منه أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ونفذته الولايات المتحدة، صندوق النقد الدولي سوف يتغير ويصبح لاعب ثانوي ومعه البنك الدولي لتقديم القروض، الجائحة اليوم تشكل منعطفا في تاريخ القروض عالميا، حيث ستتوجه عدد من الدول إلى الصين للحصول على قروض. وستكون الصين أمام فرصة لا تعوض للتنافس مع النظام العالمي المالي “بريتون وودز” الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، ويحل محله “البنك الآسيوي للاستثمار” الذي سيساعد دولا أسيوية ثم افريقية وأمريكا اللاتينية على هيكلة اقتصادياتها".

كما قال الحراثي، إن عودة الدولة الوطنية في شقها الاقتصادي سوف تقود إلى حرب استقطاب حقيقية بين الغرب والصين، ستعطي حربا باردة من نوع آخر، وهي الحرب التجارية، وتابع "على الرغم من التحديات التي فجرتها جائحة القرن أمام الدولة الوطنية، إلا أنها قد مثّلت إعادة اعتبار للدولة من جديد، خاصةً في ظل فشل قطاع الأعمال والشركات الكبرى دولية النشاط في لعب أدوار فاعلة خلال الجائحة".

ورأى البروفيسور الحراثي، أنه "بالتوازي مع تضاؤل فاعلية التكتلات الإقليمية والمنظمات الدولية في أداء وظائفها المتوقعة، فإن جائحة كورونا قد تمهد لما يمكن اعتباره دوراً جديداً للدولة الوطنية في المرحلة المقبلة"، وأن "الدولة في مرحلة ما بعد الجائحة سوف تكون أقوى عمّا كانت عليه في الفترات السابقة"، مضيفا أن "تحديات الجائحة مثّلت تكريـس السياسات الأحادية للدولة وصعـود اتجاهات الدولاتية والاتجاهات الشـعبوية، وترنح الديمقراطيـة السياسـية، وتحول الاقتصاد من الخارج إلي الداخل، وتباين الثقة السياسية بين الحاكم والمحكوم"

وزاد، أنها مثلت أيضا صعود نموذج الدولة المهيمنة، وعودة تاريخ الدولة المتدخلة اقتصاديا، واستدعاء القطاع العام بقوة، وصعود مفهوم الحدود الصلبة، والعناية بوسائل التقنية، وصعود مفهوم الاستخبارات الوبائية"
 
 بدوره، قال أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس البروفيسور مراد وهبة، إنه من توابع فيروس كورونا أن المسألة أصبحت خاصة بكوكب الأرض وليس بإقليم معين أو دول معينة، وبالتالي لابد أن يحدث ما يسمى الاعتماد المتبادل، مضيفا: "الآن ندخل مرحلة جديدة وهو عصر الكل يتحمل المسئولية، فلا يوجد ضعيف أو قوى، حيث أن الاعتماد المتبادل هو قيام كل جزء لديه ما يقدمه للأخر فسيقدمه،  فلا يمكن لكل منهما أن يستغنى عن الأخر، كما ستظهر عقب الأزمة التي ستحل بالاعتماد المتبادل أن هناك مؤسسات لم تعد لها قيمة فيما بعد كورونا، لأننا متجهين إلى أن الفرد نفسه كما لو كان مؤسسة، بمعنى أن الفرد سيتحمل مسئولية كونية وليس فردية.
 
 من ناحيته، رأى المؤرخ المصرى عاصم الدسوقى، أنه "لابد بعد الكوارث الكبرى -كما جاء في التاريخ- أن يحدث تأثير في السياسات والعلاقات، وكورونا لم يقتصر على بلد معين، ولكن انتشرت في مختلف دول العالم، وتداخل العالم معا لمقاومة تللك الفيروس، ويؤدى ذلك في النهاية إلى تغير في العلاقات الدولية.

وقال الدسوقي، إن فكرة التفوق التي كانت سائدة عن الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تفرضها على العالم سترجع إلى الوراء، فإذا كانت أمريكا لم تواجه فيروس كورونا لزعمت أن سياستها ونظامها الطبي هو سر تفوقها على العالم.

وأوضح البروفيسور عاصم الدسوقى، أن هناك بالفعل سياسات تغيرت من الآن، كما راينا موقف تامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية من إيقاف مساهمة أمريكا في صندوق منظمة الصحة العالمية، لافتا أن التغير ليس شرطًا أن يكون للأحسن أو للأفضل، ويأتي ذلك حسب التأثير والتأثر بما يتم في عالم يشهد اوضاعًا جديدًا.


 
 الطرح الذي ذهب إليه الدسوقي خالفه فيهالكاتب الصحفي الليبي جمال الزائدي، الذي شكك في التصورات التي طُرحت حول عالم مابعد كورونا، والتي توقعت انتهاء هيمنة الرأسمالية المتوحشة بقيادة الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب لصالح المنظومة الصينية الأكثر انسانية والأقرب الى قيم العدالة الاجتماعية.

ووصف الزائدي تلك التصورات بأنها:  "برق خلب لارعد بعده ولا غيث نافع يرجى منه "، قائلا: "هذا التفاؤل قائم على انحيازات أيديولوجية أقرب للأماني منها إلى التحليل الموضوعي المؤطر بمنهجية علمية واضحة"

وأشار الزائدي إلى أنه "منذ طوفان نوح الشهير مرت البشرية خلال الأحقاب بكوارث مدمرة أنعشت آمال المستضعفين في الارض بميلاد عالم جديد أقل قسوة وأكثر رحمة"، مستطردا: "لقد سجل التاريخ ومضات عابرة تمتعت فيها بعض المجتمعات بشيء من العدالة والتسامح والسلام القائم على المساواة تحت رعاية مصلحين عظام وأنبياء ورسل"، مضيفا: "لكنها ظلت تجارب تحتل هامشا ضيقا وغير مذكور ، أمام متن عريض ومسيطر ، وسم  الزمن الانساني المحكوم بالجريمة ومنطق البقاء للأقوى"

وقال الزائدي، إن تداعيات جائحة كورونا العالمية قد تنتهي إلى تقليم مخالب الهيمنة الامريكية على اقتصاد ومقدرات العالم، وقد تسفر عن انهيار الوحش الأمريكي الأسطوري نفسه وتشظيه إلى خمسين دولة هي بالضبط عدد الولايات التي تشكل كيانه العملاق"، متابعا: "لكن ذلك لن يكون إيذانا بقيام مملكة السماء التي ستمتلئ أنهارها بالعسل واللبن ويرعى في براريها الذئب والحمل ، فإذا ذهبت أمريكا ستأتي "أمريكات" أخرى ، وإذا استقال العم سام سيتقدم آخرون ليأخذوا مكانه، الطابور طويل قد يبدأ من الصين ولاينتهي إلى روسيا"

ورأى الزائدي أن "الهيمنة  ليست عقيدة ولا ديانة، بل تجل من تجليات القوة في وجهها الاقتصادي أو العسكري أو السياسي تحمل في قانون حركتها الذاتية نزوعا إلى الهيمنة والتوسع والاستحواذ،وتوقع أن الصين ستتحول الى نسخة أكثر قسوة ربما من أمريكا المنتظر انهيارها ضمن الأماني المتفائلة بعالم مابعد كورونا"، متابعا: "بعد كل ذلك لن يتغير علينا شيء نحن الذين سننتقل من عبودية سيد إلى عبودية سيد آخر"
 
 على الجانب الأخر، يرى أمين اللجنة التنفيذية للحركة الوطنية الشعبية الليبية مصطفى الزائدى، أن وباء كورونا قد يسهم في إعادة صياغة نظام اجتماعي عالمي واقعي وليس افتراضي، قائلا: "كشفت جائحة كورونا عورة المجتمعات الرأسمالية، بعد أن سقطت هالة الدعاية الإعلامية الخادعة أمام هجوم الفيروس الشرس! لقد كان النظام الرأسمالى الذي توحش بعد الحرب الثانية، يعتمد على دعاية الإعلان والأنشطة المذرة للمال ويستخدم البهرجة والألوان والاضواء في خطف عقول الشباب ليتمكن من مزيد السيطرة، سخّر موارد ضخمة للانفاق العسكري ليستعرض عضلاته، فيتمكن من الهيمنة المطلقة على العالم، لكن إصابة بضع آلاف من مواطني أكبر الدول الرأسمالية أدت الى إنهيار مريع للنظام الصحي والأمني والإقتصادي فتمت مواجهته بإجراءات قاسية وأجبر الناس للبقاء في بيوتهم وتوقفت عجلة الإقتصاد الرأسمالي، لكن دون جدوى واستمر سقوط الضحايا بصورة مماثلة تماما لما أصاب البشرية في القرون الوسطى، وعادت الى الأذهان صور ملايين الموتى في أوروبا من الطاعون الأسود، والإنفلونزا الأسبانية والجدري وغيرها. ربما من مزايا كوورونا الجانبية، انه أوضح للشعوب حقيقة أهداف دعوات الإصلاح الإقتصادي التي روّجت لها الماكنة الدعائية الرأسمالية العقود الماضية ، ودوافع تشجيع نشر الفوضى في البلدان المستقرة".