لا شك أن صدمة وباء الكورونا فضحت زيف العالم الذي نعيش فيه وبينّت هذه الأزمة أن العولمة اختزلت في شبكة من المعاملات دون تضامن لقد وفّرت حركة العولمة حتما الاندماج التقني والاقتصادي للكوكب، لكنها لم تبني جسور التفاهم بين الشعوب واسقطت فضائل الصّداقة والتسامح والتعاون.

ويمكن القول بأن وباء "كورونا" يضعنا اليوم أمام أنفسنا، وأمام حقائق تتعلق بهويتنا الإنسانية في عالم استهلاكي متوحش. فما هي رؤية الفيلسوف الفرنسي ادغار موران لجائحة كورونا والعزل الصحي والعلم والعولمة؟ وما الذي يتوجب علينا فعله اليوم قبل الغد؟

وإدغار موران عالم اجتماع وفيلسوف فرنسي من مواليد سنة 1921. مفكّر تقدّمي مناهض للعولمة وله مواقف مساندة للقضيّة الفلسطينيّة. صاحب مؤلّفات كثيرة، منها: النقد الذاتي (1959)؛ ماي 1968: الفجوة (1968)، مؤلّف مشترك؛ مدخل إلى الفكر المركّب (1990)؛ الحبّ، الشّعر، الحكمة (1997)؛ الجامعة، أيّ مستقبل؟ (2003)، مؤلّف مشترك؛ الثقافة والبربريّة الأوروبيّة (2005)؛ أين يسير العالم (2007).

وفي حوار أجري معه مع صحيفة "لوموند" الفرنسية، يناقش إدغار موران انتشار وباء "كورونا". ويقدم الفيلسوف الفرنسي صاحب "الثقافة والبربريّة الأوروبيّة" و"إلى أين يسير العالم؟" رؤيته لهذا الوباء، من موقع العارف بالعولمة وما تنتجه من أزمات توجب علينا البحث عن حلول عالمية بديلة، ليس أقلها إعادة النظر بأنماط معيشتنا وأهمها الإستهلاك المتوحش والروابط العائلية والإنسانية والمصير البشري المشترك.

يقول موران في اجابة عن سؤال، هل كانت جائحة الكورونا متوقعة؟، أن كل الدراسات المستقبلية للقرن العشرين والتي ترسم ما سياتي انطلاقا من معطيات الحاضر اهتزّت قيمتها، ما زلنا نتنبأ بما سيأتي سنة 2025 و2050 في حين نعجز عن فهم 2020.ويضيف إن وعينا لم يستوعب الطفرات غير المتوقعة في حركة التاريخ، والحقيقة أن أهم ما يجب توقعه هو غير المتوقع، ومن هنا كانت مسلمتي الشهيرة "انتظر نفسك في غير المنتظر".

وقال موران أنه كان من الأقلية التي توقعت سلسلة من الكوارث من بينها الاندفاع غير المراقب للعولمة الاقتصاديةـ التقنية ومن بينها كوارث دمار البيئة ودمار المجتمعات، لكنه أكد أنه لم يتوقع كارثة حيوية بهذا الحجم.وأشار موران الى اعلان "بيل غايتس"، في ندوة بتاريخ أفريل 2012، أن الخطر الذي يتهدد البشرية لن يكون نوويا بل سيكون تهديدا للصحة موضحا أنه رأى في وباء الإيبولا إعلانا عن خطر كوني لفيروس ما، له قدرة عالية على الانتقال والعدوى.

وأضاف الفيلسوف الفرنسي أن بيل غايتس عرض التدابير الضرورية لمواجهة هذا الفيروس وأوصى بالاستعدادات الطبية الضرورية. لكن أحدا لم يأخذ بعين الاعتبار هذا التحذير في الولايات المتحدة الامريكية أو في غيرها من دول العالم، وذلك فقط لأن البذخ العقلي وسلطة العادة لا يقبلان الرسائل المربكة والمرعبة.

وبحسب موران تضعنا هذه الجائحة أمام أشكال متنوعة من عدم اليقين:حيث يقول "نحن لا نعلم شيئا عن مصدر الفيروس، سوق الحيوانات بمدينة يوهان أو مختبر مجاور، ولا علم لنا بالتحولات التي حدثت أو ستحدث على هذا الفيروس خلال انتشاره، ونحن لا نعلم متى تتراجع الجائحة وما إذا كان هذا الفيروس سيظل قاتلا.

ويضيف نحن لا نعلم أيضا إلى أي حد بأي شكل سيضعنا الإغلاق الصحي أمام موانع وحواجز وأنواع من التقسيم والتصنيف. لا علم لنا أيضا كيف ستكون التداعيات السياسية والاقتصادية، الوطنية والعالمية لهذه الموانع التي فرضها هذا الإغلاق.نحن لا نعلم أيضا ما إذا كنا ننتظر من هذه التدابير الأسوء أم الأفضل، أو ربما خليط من السيئ والحسن. إننا إذن أمام أشكال جديدة ومتنوعة من عدم اليقين.

** إلى أي حد يمكن الاستفادة من الأزمة؟

يجيب ادغار موران قائلا "في محاولتي "حول الأزمة" (الصادرة عن دار فلاماريون) أردت أن أؤكد أن كل أزمة، في ظل الارتباك وفقدان اليقين اللذان تخلقهما، تتمظهر في اضطراب قواعد عمل نظام معين، هذا النظام الذي يسعى حفاظا على توازنه إلى منع كل أشكال الانحراف ( التغذية السلبية المرتدة)، لكنّ هذه الانحرافات تصبح توجهات فاعلة إذا لم يتم صدها، وإذا ازدادت فاعليتها يمكن أن تصبح قادرة على تهديد النظام وتحطيم قواعده".

ويضيف "في الأنظمة الحية، وخاصة الاجتماعية منها، تطور الانحرافات يجعل منها اتجاهات فاعلة: تقهقرا أو تقدما وربما ثورة. وعليه يمكننا القول أن الأزمة في مجتمع ما تتحرك ضمن مسارين متعارضين: الأول يحفّز الخيال والتوجه الخلاق في البحث عن حلول مستحدثة، أما الثاني فله وجهان، إما أن يكون انكفاء على حالة استقرار سابقة، وإما أن يكون انتظارا لما ستجود به العناية الإلاهية على اعتبار أن أفعالنا أفعال مذنبين ارتكبوا معاص كانت هذه الأزمة نتيجة لها، وقد يكون المذنب متخيلا، كبش فداء يجب التضحية به".

وتابع "في الواقع، إن أفكارا كثيرة مارقة ومهمّشة تستعاد وتجد لها موقعا فتنتشر في كل مكان: عودة إلى فكرة السيادة، دولة العناية، الدفاع عن الخدمات العمومية ضد الخوصصة، العودة إلى الثقافة المحلية، مواجهة العولمة، مواجهة الليبرالية الجديدة، الحاجة إلى سياسات جديدة. وتجد هذه الأفكار التعبير عنها في الواقع إذ رأينا في مواجهة نقص الخدمات العمومية، انتشار التوجهات التضامنية من قبيل إنتاج الأقنعة الواقية في مصانع خاصة، تجمع منتجين محليين من أجل سلع أقرب وأقل كلفة، التسليم المجاني للاحتياجات، التعاون بين الجيران، الوجبات المجانية لفاقدي المأوى، رعاية الأطفال. إضافة إلى ذلك يحفّز الإغلاق الصحي قدرة الناس على الانتظام الآلي لتخفيف الضغط بالمطالعة أو الموسيقى أو الأفلام والتعويض عن حرية التنقل، لقد حفزت الأزمة قدرات الأفراد الإبداعية".

ويؤكد ادغار موران أن هذه الجائحة العالمية فجّرت عندنا أزمة صحية حتّمت انغلاقا خنق الاقتصاد وحوّل نمط عيش الناس المنفتح على الخارج إلى ارتداد إلى الداخل.وضع جعل العولمة في أزمة خانقة.لقد خلقت هذه العولمة أشكالا من الارتباط المتبادل ولكنه ارتباط لا موقع فيه للتضامن بين البشر، والأسوأ أنها أثارت ـ في شكل ردود أفعال ـ أشكال انعزال عرقي وديني وقومي مثلت سمة العشرية الأولى من هذا القرن. وفي غياب مؤسسات دولية قادرة على حماية النشاطات التضامنية بين الدول، فقد انقلبت الدول القومية على بعضها البعض.

ويدلل موران على ذلك بقوله ان جمهورية التشيك اختطفت شحنة كمّامات واقية في طريقها إلى إيطاليا، وحولت الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى وجهة شحنة موجهة إلى فرنسا. لقد فجّرت هذه الأزمة الصحية سلسلة أزمات مترابطة: إنها أزمة تمتد من الوجودي إلى السياسي مرورا بالاقتصاد، ومن الفردي إلى الكوني مرورا بالعائلات والأقاليم والدول.

وبحسب موران يمكن تناول هذه الأزمة في تنوع وجوهها، إذ باعتبارها أزمة كوكبية، فإنها تعرّي عجز الجنس البشري عن تحقيق إنسانيته. وباعتبارها أزمة اقتصادية، فإنها تزعزع كل الدغمائيات الموجهّة للاقتصاد وتهدد مستقبلنا بمظاهر الفوضى والنقص. وباعتبارها أزمة الدولة الوطنية، فإنها تكشف الخلل في سياسة أعطت الأولوية لرأس المال على حساب العمل، وضحت بالاحتياط والوقاية من أجل مزيد من المردودية والتنافسية.

وباعتبارها أزمة اجتماعية، فإنها تضع تحت ضوء ساطع أشكال التفاوت بين فقراء العالم اللذين يعيشون في مساكن ضيقة تضم الأبناء والآباء والأجداد وبين أثريائه اللذين يجدون في منتجعاتهم الريفية الرفاهية والسلامة. وباعتبارها أزمة حضارية، فإنها تدفعنا إلى الوقوف على غياب التضامن وهيمنة مظاهر التسمم الاستهلاكي التي طورتها حضارتنا.

وباعتبارها أزمة فكرية، فإن فيها نكتشف عمق الثقب الأسود في تفكيرنا، هذا الثقب الذي منعنا من رؤية تعقيدات الواقع. وباعتبارها أزمة وجودية، فإنها تدفعنا إلى أن نتساءل حول نمط عيشنا، وحول احتياجاتنا الحقيقية، وحول تطلعاتنا التي أخفاها اغترابنا في حياتنا اليومية، كما تدفعنا إلى أن نميّز بين الترفيه الذي يخفي حقيقتنا وبين السعادة التي نغنمها في لقائنا بالأعمال الفنية الكبرى حيث نلتقي وجها لوجه حقيقة قدرنا الإنساني.

ويتحدث موران عن تجربته مع العزل الذاتي قائلا، لقد تحملت تجربة العزل في ظروف جيدة، فلي شقة في الطابق الأرضي مع حديقة أستطيع الاستمتاع فيها بأشعة الشمس وباستقبال الربيع، ولي زوجة تعتني بي ولي جيران طيبون يقدمون يد المساعدة، كما أني قادر على الاتصال بأقاربي وأحبتي وأصدقائي، وقادر على الالتقاء بالصحافة لتقديم تصوري للوضع وخاصة عبر السكايب. لكنني أعلم أن كثيرين غيري يعيشون في مساكن ضيقة ومكتظة سيضيقون ذرعا بهذا الإغلاق، وأن الضحايا الحقيقيين لهذا الوضع هم من لا مأوى لهم.

واعتبر موران أن العزل الصحي حين تطول مدته يصبح بمثابة سجن، موضحا أن الأفلام لا تستطيع تعويض الخروج إلى السينما، والأجهزة اللوحية لا تعوّض زيارة المكتبات العامة، والسكايب لا يمكن أن يكون بديلا عن اللقاء الحميمي بالآخر، والأكلات المنزلية ـ مهما كانت صحية ولذيذة ـ لا تعوض رغبتنا في زيارة المطاعم، والأفلام الوثائقية لن تكون البديل عن الاستمتاع بالمناظر الطبيعية والمدن والمتاحف.

واشار الى إن اقتصارنا على الضروريات يغذّي تعطّشنا إلى الكماليات.معربا عن أمله في أن تعلمنا هذه التجربة أن نتجنّب الاندفاع الاستهلاكي المحموم الذي تحرّكه الإغراءات الاشهارية، لنضمن الحصول على تغذية صحية ومواد قادرة على الصمود معنا بدلا مما تعودنا عليه من إشباع طارئ وفي أغلب الأحيان غير ضروري.

وحول انتهاء الأزمة يطرح موران تساؤلات عديدة قائلا هل سيكون الخروج من الاغلاق نهاية الأزمة الكونية أم تعميقا لها؟ انفجارا أم تراجعا؟ هل سنكون أمام أزمة اقتصادية عالمية وربما أزمة غذائية عالمية؟ هل سنكون أمام استمرار العولمة أم انكماشها؟ كيف سيكون مستقبل هذه العولمة؟ هل ستستعيد زمام الأمور بعد اهتزازها؟ هل ستستمر المواجهة بين القوى العظمى في العالم؟ هل ستستمر النزاعات المسلحة التي قلصت الجائحة من حدتها؟

ويضيف هل سيقوم توجه عالمي من أجل التعاون والتقارب؟ هل ستحصل تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية مثلما حصل بعد الحرب العالمية الثانية؟ هل سيستمر هذا المد التضامني الذي أيقظه الحجر الصحي لا فقط مع الأطباء والممرضين بل مع كل الذين تكفلوا بخدمة المجتمع زمن الاغلاق العام من قبيل جامعي القمامة ومزودي السلع التموينية والخبّازين، هؤلاء اللذين ما كان بإمكاننا بدونهم أن نتحمّل وطأة هذه الأزمة؟ هل سيستعيد الخارجون من الاغلاق النسق المتسارع والأناني للاستهلاك أم سيكون ثمة توجه نحو حياة بسيطة وسهلة ونحو حضارة تمجّد شاعرية الحياة وتترعرع فيها "الأنا" داخل "النحن"؟.

ويؤكد المفكر الفرنسي الذي عاصر كلّ مخاضات القرن العشرين أن عمل كلّ نظام يهدف دائما لخلق التوازن كلما مرّ بمنعطفات، إما بالسعي للعودة إلى الأنماط السلوكية والتصورات الذهنية السّابقة، وإما بخلق نظام آخر أكثر تركيباً يضمن التكيف مع المعطيات الجديدة.فيقول ليس بإمكاننا أن نعرف ما إذا كان ما بعد الإغلاق سيعطي للأفكار المجددة في السياسة قيمتها وإمكان حضورها، أم أن هذا النظام القائم والمتداعي سيستعيد توازنه.

ويؤكد موران أن زمن ما بعد الجائحة سيكون زمن مغامرة يغيب فيه اليقين تتطور فيها قوى الخير والشر، لكن قوى الخير تظل   أضعف وأقل حظا. لكن لنعلم أن الشر ليس يقينيا، وأن اللامتوقع يمكن أن يتحقق، وأنه في الحرب المستمرة بين العدوين الأبديين إيروس وتاناتوس يكون الحل الأسلم في الانحياز للإيروس.

ويختم موران الحوار متحدثا عن ولادته العسيرة نتيجة اصابة والدته بالأنفلونزا الإسبانية، مشيرا الى أن هذه البداية مثلت قوة المقاومة التي استمرت معه طوال حياته.وأقر موران أن الزخم الحيوي لم يفارقه بل ازداد قوة خلال هذه أزمة جائحة "كورونا".وأكد أنه يجد في كل أزمة نوعا من التحفيز، ولكنه اعتبر أزمة اليوم هي الأكثر قوة لذلك فإنّها تحفزه بطريقة أقوى.