حاول أحد المدونيين الليبيين أن يقنعنا بأن بروز"الظاهرة النيهومية" في ستينيات القرن المنصرم، كان استجابة لجملة من التفاعلات المجتمعية التي حدثت في أعقاب عقود من الزمن؛ اتصف بعضها بالجمود والركود، وبعضها الآخر بالتحولات التاريخية العنيفة. كما كان استجابة أيضاً لجملة أسئلة ملحة متعلقة بالهوية والمستقبل والتقدم تناولتها النخب الليبية آنذاك. والواقع أن هذا الرأي قد لا يكون محل إجماع، وربما لا تكون له علاقة بالحقيقة، إنما هو محاولة تفسيرية استرجاعية لأحداث الماضي، ومعالجتها بوعي الحاضر. 

ففي الستينيات من القرن الماضي عندما بدأ النيهوم مسيرته الإبداعية، لم تكن أسئلة الهوية مطروحة، بل على العكس تماماً. فقد كانت المسألة محسومة جماهيرياً، أكثر مما هي عليه اليوم، وذلك بتأثير المد القومي العروبي الناصري الذي عم المنطقة بأكملها، وليبيا الجارة الأقرب، لم تكن استثناء. إلا إذا كان قصد المدون ما كان يدور من حوارات معزولة بين مجموعة من أوائل المؤدلجين بتأثير عناصر إخوانية كانت قد فرت من مصر ووجدت في ليبيا ملاذاً وملجأ آمناً. ولا يمكن الحديث كذلك عن وجود نخب سياسية بالمعنى العلمي للمصطلح. لكن يمكن الحديث عن مجموعات محدودة من المثقفين الذين انفتحوا على أيدلوجيات يسارية ويمينية. ولكن بقدر ما كانت أعداد هؤلاء المثقفين محدودة ومحصورة في بعض المدن. بقدر ما كانت تفصلهم هوة سحيقة عن القواعد الجماهيرية. فكيف يًتصور لشعب كان يرزح تحت نير الجهل والأمية والتخلف والعبودية، وينشب البؤس والفقر والمرض أظفاره في جسده، أن يهتم بأكثر من البحث عن لقمة عيشه والانشغال بشؤونه الصغيرة. إلا إذا كان الهدف الذي قصد إليه المدون هو تلميع صورة النظام السياسي الذي كان قائماً. 

إذن لا يتصور مطلقاً أن تكون الظاهرة النيهومية انعكاساً لواقع الحال، بقدر ما كانت انفكاكاً عنه ورفضاً له وتمرداً عليه. إنها صرخة احتجاج على الإقطاع السياسي والاستبداد الديني، وتحد لمركبات الجهوية والقبلية والضحالة الثقافية. وبقدر تجذر هذه الأمراض في بنية الجسد المجتمعي، جاءت قوة الصرخة ووقعها. وإذا ما استعرنا مصطلحات نظرية التحليل الفاعلي التي بلورها الأستاذ الشيخ محمد الشيخ، دون التقيد الصارم بمفاهيمها الدقيقة، فإن بنية العقل التناسلي القاعدي، هي البنية التي سادت وهيمنت على العقل في ليبيا آنذالك. وهي بنية "تعطي الأهميّة والأولويّة للبقاء عبر التناسل، فيعي الإنسان ذاته كائنا وظيفته التناسل". وتسود هذه البنية، "حينما تكون الوسيلة الوحيدة المتاحة بغية التغلب على ارتفاع معدلات الوفيات هي زيادة معدلات المواليد، وحينما تكون القوة العضلية للرجال والنساء هي مصدر الأمن الاجتماعي والغذائي". مع وجود هامش لا بأس به لبنية العقل البرجوازي (المادي) ، التي تعطي الأولويّة لإنتاج واستحواذ الخيرات الماديّة، ومن ثمّ يعي الإنسان ذاته كائنا ماديّا واقتصاديّا. وتسود هذه البنية المادية حينما توفر البنية التناسلية البشر كمياً فينتج تحدي وهاجس جديد هو توفير المأكل والمأوى لملايين الأفواه الفاغرة. 

بتصريف هذا الكلام في سوق الفكر والثقافة، فإن "لكل بنية عقل مرجعيتها المعرفية والقيمية ومفهومها للذات التي تحفز لأجل تحقيق مشروع البنية". وفي هذا السياق تعد بنيتا العقل التناسلي، والعقل البرجوازي من أفقر البنيات من الناحيتين الفكرية والثقافية، ومن أكثر البنى تدن للفاعليّة، لأنّ "برامجهما للعطاء مغلقة، وتحصران الحب والعطاء في إطار الفرد وأسرته وربما عشيرته أو طائفته" على أكثر تقدير. وانعكاس هذا هو إنتاجهما لمنهج التلقين والحشو والخضوع والتسليم بكل ما يقال. وهذا ما أنتج بدوره عقلية سكولاستيكية جامدة متقوقعة، يقتصر فعلها الفكري والإبداعي على الحفظ والاستذكار ومراكمة الشروح على الشروح والحواشي على الحواشي. وهذا ما أدى إلى إنتاج مجتمع أبوي بطرياركي صارم التقاليد لا يسمح بالتفلت من أعرافه وقوانينه. وهو ما حرم الخروج على المألوف أو ممارسة النقد والقراءة التفكيكية للتابوهات الدينية والاجتماعية، واعتبره في منزلة المحرم والمحظور. وبالتالي اتسمت الحياة الفكرية والثقافية بالتسطيح والفقر المدقع والتصحر.

 ومن بين ركام هاتين البنيتين العقليتين البائستين انبثقت عقلية النيهوم الإبداعية، بما يشبه المعجزة أو الطفرة. فاستطاع النيهوم أن يفلت من قيود بنيتى العقل التناسلي والبرجوازي المادي، إلى بنية العقل الخلاق المبدع. وفي هذا الإطار، كتب منصور بوشناف قائلاً، كان "النيهوم ابن مجتمع يقبع في زمن الخرافة، وكان الفقيه شبه الأمي يقود عقل ذلك المجتمع". وفي داخل هذا الوسط المغلق المنغلق، تشكلت عقليته الفاعلة الخلاقة، وهي بنية  "يعي الإنسان من خلالها ذاته كائنا خلاقاً وظيفته الإنتاج والإثراء الشامل للحياة". ولذلك فهي "بنية مفتوحة مرتقية الفاعليّة".. وسنتناول فيما يلي بعضاً من المواضيع والقضايا التي تناولها للتدليل على أن فكر النيهوم كان سابقاً لعصره. فقد خاض في مسائل وقضايا كانت من المسكوت عنها واللا مفكر فيها، فكأنما قذف جملة من الأحجار في بركة الفكر العربي الراكدة. ولقد كان لهذه الخطوة ما ورائها فقد حفزت أجيالاً من الباحثين على المستوى العربي للخوض في مسألة الحداثة وإعادة قراءة التراث وتخليصه من الأوهام والتشوهات والخرافات.

لقد أدرك النيهوم مبكراً أهمية الدين في حياة الشعوب، فهو المصدر الذي يمد الأمة بالقوة المعنوية الهائلة التي تحفز طاقاتها وتطلق العنان لقواها الإبداعية الهائلة. لكنه وقف على حقيقة أن هذا المصدر ظل معطلاً لقرون بقرار سياسي، أداته التنفيذية رجال الدين الذين خلعوا القداسة على أنفسهم لتسهيل أداء المهمة التضليلية، واستطاع الفقهاء أن يجيروا الدين لخدمة الحاكم واحتكار السلطة، فقدموه في إطار رجعي ودروشي أحياناً، وأخرجوه عن حقيقة غاياته. وبدلاً من أن يكون وسيلة للانعتاق، حولوه إلى قيود وأداة للانغلاق. فأستهدف مشروع النيهوم التنويري أول ما استهدف تفكيك طلاسم الخطاب الديني ونزع القداسة عن رجال الدين، وأعادتها للنص المقدس، لا للمتطفلين عليه. لكن التنوير النيهومي، وعلى عكس المشاريع اللاحقة لنقد الخطاب الديني التي اتكأت على رؤية ومنهجية من خارج منظومتة الفكرية. انبنى المشروع التنويري الإصلاحي  يستولد مرجعيته من داخل بنية الفكر الديني الإسلامي، ولذلك فهو يرفض مسألة توقف الاجتهاد الفقهي ويدعو لانفتاحها على تطورات الحياة السياسية والاجتماعية. 

ولما كان الدين صالحاً لكل زمان ومكان، فإنه يتطلب ديناميكية تفسيرية وتأويلية مستمرة تتعامل مع المستجد المتغير في ضوء قواعد الثابت الراسخ. ولذلك جاءت تساؤلاته وأبحاثه وعناوينه متماهية مع هذا الفهم. فنراه يقر بأن "الإسلام في الأسر"؛ أسر الفقهاء والفهم التقليدي. ويقرر أن هناك إسلاماً أوجده الفقهاء لا يمت إلى الإسلام الذي أنزله الله في كتابه بصلة، "إسلام ضد الإسلام". ونراه يحاول إعادة دور الجامع ويلح على أهمية يوم الجمعة. ويلاحظ أنه يسأل عن غياب الجامع وليس المسجد. لأن الجامع من الجمع والجماعة والاجتماع والجمعة، ولذلك فهو يؤدي دوراً حياتياً دنيويا،ً وليس مجرد دور طقوسي يجلس فيه الناس ليقرع الفقيه على ذنوبهم وقلوبهم بتذكيرهم بالويل والثبور. ولم يختر كلمة "المسجد" لأنها لا تحتمل المفهوم الحياتي المعيشي، فهي من سجد يسجد سجوداً. بكامات أخرى، فقد أراد النيهوم تخليص الدين من الأطر التي وضعه فيها فقهاء السلطة ليعود ديناً للحرية والتقدم والعدل مثلما أراده الله.

كما أدرك النيهوم أهمية التعليم وخطورة نمط التعليم التقليدي السائد في البلاد العربية والإسلامية على حاضرها ومستقبلها. لأنه تنميط للنشء وتجهيل إجباري، بخلق نسخاً مكررة ويقتل طاقات الأجيال القادمة الإبداعية. أنه تعليم يكبل العقل ويمنع تجاوز البنى القائمة عن طريق اعتماد المناهج الجامدة وطرق التعليم المتخلفة. واعتبر أن الناس يقدمون أولادهم للفقهاء الذين يشكلون عقولهم بما يخدم السلطة والسلطان.

تناول النيهوم مسألة (الجندر)، وانعدام المساواة بين الجنسين، وعدم إنصاف المرأة، وذكورية المجتمع. وانحاز النيهوم للمرأة وانتقد تهميشها وتكبيلها وتعطيل دورها. فهي تمثل نصف المجتمع ولا يعقل تحييد هذا الكم وتغييبه عن معرك المجتمع في التنمية والبناء. وما أزعج النيهوم هو ممارسة هذا التهميش بدعاوى دينية، وهي في الحقيقة دعاوى ذكورية ألبست ثوب الدين. وفي هذا السياق قال النيهوم في مقدمة كتابه (فرسان بلا معركة): "مجتمعنا مجتمع الرجال، وذلك لا يعني بالطبع أن جميع مواطنينا من الذكور فقط، بل يعني بتفصيل أكثر أنه إذا أُتيحت لك الفرصة ذات مرةٍ لكي تتعرف على ثقافتنا من الداخل فلا بدّ أن تكتشف فوراً أنها غير محايدة تسودها وجهة نظر الرجل وحده، إنّ الفكر الذي ينظر إلى العالم من وجهة نظر الرجل وحده هو فكر متحيّز وغير قادر على التزام الحياد وفق خاصيته، لكنه يرى الأشياء بعين الرجل ويتجاهل عين المرأة والطفل، ويتجاهل أيضاً أن هذا الخطأ بالذات يجعله يبدو من الخارج بمثابة فكرٍ أعور، إنه مُعد لكي يرى نصف الحقيقة فقط".

 وأضاف النيهوم في موضع آخر "المرأة في بلادنا لم تشارك في هندسة مجتمعنا، لم تشارك في تقييم أخلاقياته، لم توافق على مزاعمنا القائلة بأن شرف البنت مثل عود الكبريت وشرف الرجل مثل ولاعة “الرونسون". وهذا هو بالتمام ما تقول به المدرسة النسوية أو الأنثوية (Feminism) التي تقود نضالاً عالمياً لأنصاف المرأة، وإقامة مجتمع الرجال والنساء. المرأة. 

ولن نخوض في العواصف التي ثارت في وجه النيهوم، والمتاعب التي سببها له هذا الفكر من منع وتضييق وحتى ملاحقة أحياناً. وقد كان الرجل عرضة لنقد غير موضوعي، فرسانه من نصبوا أنفسهم حراساً للدين، يبدأ بكيل السباب والشتائم ولا ينتهي إلا بالتكفير. لكن بعض الأصوليين الأكثر اعتدالاُ أخذوا على النيهوم اقتباسه من مفكرين وأدباء عالميين واعتبروا أن فكره دخيل وغير أصيل ومستورد. وفي معرض الرد على هذه التهمة قال النيهوم: "كلمة الفكر المستورد تعني في الواقع أن أحدا ما في هذا العالم المترامي الأطراف يعبئ أفكاره في علب الورق المقوى، ويكتب عليها طريقة الاستعمال، ثم يرسلها إلينا – مثل أقراص الأسپرين – لكي يبتلعها المواطن في بنغازي عندما يحس بوجع الرأس. وأنا أعتقد أن هذه الخرافة لا تبدو غير معقولة فحسب، بل إنها أيضا تبدو بذيئة إلى حد كاف". وتضور النيهوم لخصه بقوله "العالم مجرد سوق مفتوحة على الدوام، يرتادها الإنسانُ في جميع العصور وجميع الثقافات لكي يشتري منها ما يحتاج إليه من الثياب والأفكار وفرش الأسنان، ثم يعود بسلَّته إلى (أرض الوطن) ويعمل على تطوير مشترياته لكي تلائم حاجاته أكثر، ريثما تطرأ على السوق بضاعةٌ جديدة". وأضاف بأنه لا يوجد في العالم "بلد نبت داخل حدوده، وكل فكرة وجدها الإنسان في طريقه أصبحت ملكا مشاعا للإنسان".

لا يتسع المقام للاسترسال، ولا يكفي النيهوم أي حيز للاحاطة بدرره وأعماله. ليس شرطاً أن نتفق مع كل ما قال النيهوم وما كتب. فلكل أفكاره وقناعاته. لكن لا ينبغي أن نختلف حول موهبة النيهوم وسعة أفقه وقدرته الفائقة على الانطلاق والتألق. ولا ينبغي أن ننكر أن هذه العبقرية الفذة نبتت في بيئة صحراوية قاحلة. فسبحان الذي يخرج الحي من الميت.