لا شك في أن الكتاب مثل منذ زمن بعيد نقطة فارقة في حياة الإنسان، والمجال الأكثر وضوحا له للبحث عن ذاته وعلاقاتها بالآخر والوجود. لكن جودة الكتاب وقدرته على المرور عبر العصور والمحافظة على مكانته ورونقه تبقى رهينة القارئ الذي يمنح الكتاب قيمة تخلده أو يطفئ بريقه منذ ظهوره، والأمر عائد هنا الى مدى قدرة الكاتب على شد انتباه القارئ في كل زمان ومكان وتلك الأمثلة لا شك قليلة

أحد هذه الأمثلة العربية هو الصادق النيهوم المفكر والأديب الليبي الذي مثل بالفعل ظاهرة أدبية وفكرية جديدة بسبب غزارة انتاجه الذي أثار اهتمام القراء بمختلف مستوياتهم بين مؤيد ومعارض. وبالرغم من مرور سنوات طويلة على وفاته ما يزال اسم النيهوم راهناً،  خصوصاً في سياقه الليبي. إذ طالما جرت عادة العودة إلى تجربته بوصفه أحد أعمدة الأدب الليبي وظاهرة أدبية غير مسبوقة

ويعتبر الصادق النيهوم أن القارئ هو المقياس الوحيد لنجاح الكاتب من عدمه، ففي حوار أجراه معه الكاتب الليبي "إبراهيم الكوني" يقول الصادق النيهوم عن هدفه من الكتابة:"لأنني أؤمن بأن التعامل مع الأفكار لا يمكن أن يؤدي مهمته إلا إذا تم داخل إطار العمل المحدد،  ذلك يشبه التعامل مع الثروة،  فأنت لا تستطيع أن تضع نقودك في الخزانة ثم تفرض أنها ذات قيمة حقيقية على الدوام،  إنك لابد أن تضعها في السوق لكي تعرف قيمتها على وجه الضبط،  والكتابة نوع من وسائل العرض لتحديد قيمة الفكر"

من هنا يمكن القول بأن النيهوم اختار لنفسه البحث في مشاغل الفرد والمجتمع ومحاولة طرحها بحثا عن الحلول الجادة. وقد تطرقت كتاباته الى جملة من الموضوعات والأفكار التي تثقل كاهل الانسان فكان يكتب كما يقول "لبدلة النحاس المتينة،  لأربعة آلاف ميل معبّأ بالشوق والأمنيات،  للجزار وباعة العظام وسائقي عربات الأجرة والنقل،  وللخفراء والطلبة. .  أنا أكتب لكل من أعرفهم"

ويشير البعض الى أن موضوعات التنوير لدى الصادق النيهوم تشمل مساحات واسعة من الحقل الاجتماعي والسياسي والفكري ومن ثم فهي تتناول موضوعات متعددة،  وقد ركزت دراساته التنويرية على التخلف الاجتماعي وتخلف الفكر الديني السائد في الشارع وليس في الكتب.  وناقش تنوير النيهوم مسائل مهمة كموضوع الحجاب لدى المرأة المسلمة وطبيعة المجتمع العربي الذكورية،  إضافة إلى نقد الإسلام السياسي والموقف من الديمقراطية

وتلوح من عناوين كتب النيهوم أن الموضوع الديني أكثر المواضيع إلحاحاً في كتاباته؛ حيث لا يكاد يخلو عمل كتابي له من اتصال مباشر تصريحي أو رمزي تضميني بقضية أو فكرة دينية وفي كثير من المناسبات،  فنجد النيهوم في كتاب "الإسلام في الأسر" يفرّق بين مفهومي المسجد والجامع،  ويعتبر الأول هو مكان الصلاة،  فالمسجد اسم مكان للسجود وللصلاة،  أما الجامع فهو في نظره مكان للقاء السياسي وليس للصلاة،  أو ليس للصلاة فقط

يقول النيهوم :"في المسجد أو خارجه،  يستطيع المسلم أن يؤدّي فريضة الصلاة،  فالإسلام يعتبر الكرة الأرضية بأسرها مسجداً مفتوحاً للخلوة مع الله،  لكن ثمة فرائض أخرى لا يستطيع المسلم أن يؤدّيها إلا في مؤتمر إداري خاص،  له سلطة أعلى من سلطة الدولة،  ومسؤول إداري عن صياغة القوانين" ويتابع النيهوم قائلاً:"فالجامع ليس هو المسجد،  وليس مدرسة لتلقين علوم الدين،  بل جهاز إداري مسؤول عن تسيير الإدارة جماعياً".

ويعتبر النيهوم أن معجزة الإسلام الأولى أنه اكتشف مفهوم (الناس - الشعب المسؤول عن مصيره وحياته) وأمر بتحريرهم من سلطة الإقطاع وتجاوز التقسيمات المصطنعة للناس وتغييب حرياتهم ليعود لهم حق الإشراف على الشؤون العامة في مؤتمر دوري أسّسه الإسلام ودعا إليه في يوم الجمعة،  واعتبر كل من يتخلّف عنه آثماً،  ولم يعتبر الانشغال بالتجارة عذراً،  بل اعتبر هذا المؤتمر له الأولوية على كل شيء؛ حتى على كسب الرزق؛ لأنه يتعلّق بحياة المسلم نفسه،  حيث تُقترح فيه القوانين وتُناقش المواضيع العامة كالميزانية والقرارات السياسية والإدارية المختلفة

ولعل ما يثير الجدل في كتاب "الاسلام في الأسر" هو تأكيد النيهوم على أن الاسلام لم يبن على خمسة أركان فقط،  مؤاخذا الفقهاء في فصل بعنوان "قواعد الاسلام ليست خمسا" على كونهم حصروا قواعد الإسلام في الأركان الخمسة المعروفة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،  وإقام الصلاة،  وإيتاء الزكاة،  وصوم رمضان،  وحج البيت الحرام،  وهي أركان لايوجد من بينها ما له علاقه بشؤون الحكم،  الأمر الذي يشكل حسب النيهوم ثغرة واسعة جدا في الفقه الاسلامي

ويستند النيهوم في هذا على أن نظرية الأركان الخمسة المستندة على حديث أبي هريرة،  والتي تأسست في عهد بني أمية،  ليس لها مرجع من القرآن الكريم ماعدا الاية 71 من سورة التوبة:"وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"

وهي الآية التي يستشهد به النيهوم لإثبات أركان أخرى تم إسقاطها من طرف الفقهاء خوفا من الأمويين الذين كانوا ممسكين بالسلطة بيد من حديد. ومن هذه الأركان التي استشفها النيهوم من الآية السابقة، "ركن الأمر بالمعروف" و"ركن النهي عن المنكر"،  موضحا إن إسقاط هذين الركنين مرده إلى ما يتطلبانه من سلطة فعلية،  فالمسلم لايمكن "أن يأمر بالمعروف إلا إذا كان ذا سلطة فعلية،  وهو الشيء الذي حرم منه المسلم داخل جماعته السياسية حتى لا يخسرها بنو أمية"،  وهو الأمر نفسه بالنسبة لركن النهي عن المنكر لأنه "ركن جماعي يتطلب أداؤه أن تكون الجماعة قادرة على عقاب أهل المنكر وهي فكرة من شانها أن تجرد بني أمية من قصورهم وحراسهم وتجرهم إلى الجلد العلني في الساحة العامة"

يضيف النيهوم ركن "حفظ حقوق المرأة" استنادا إلى ذات الآية،  مؤكدا حقها في الطلاق إعمالا للآية 227 من سورة البقرة "وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم "،  إضافة إلى المساواة بينها وبين الرجل أمام القانون مصداقا للآية "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف". كما يضيف ركن "الدفاع عن المستضعفين" استنادا إلى الآية "وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً"

أما ركن "العمل بكتاب الله" فيعود مرجعه بحسب النيهوم في الآية القائلة "اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك" من سورة الأنعام،  والآية "اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ" من سورة الأعراف،  مفسرا إسقاط الفقهاء لهذا الركن بكون إقراره كان سيعني إلغاء العمل بباقي الكتب،  الأمر الذي سيترتب عليه إسقاط حديث أبي هريرة عن الأركان الخمسة الذي يشكل أساس نظريتهم

ويواصل النيهوم معركته مع الأفكار السائدة والمسلّمات الدينية التي أثقلت كهل الانسان العربي، حيث يرسم طريقاً آخر للمسلمين عبر تفعيل دور الشرع الجماعي في الإسلام،  وتطوير مبدأ الشورى وتطوير الفقه الإسلامي حول المسائل الدستورية وأصول الحكم والمواطنة والمشاركة السياسية. فيرى أن غياب الشرع الجماعي لدى الأمة الإسلامية تم عندما ظهرت طبقة الفقهاء الذين تولّوا الحديث نيابة عن الأمة،  واحتكروا لأنفسهم حق تقرير مشروعية أفعال الأمير،  ومشروعية أي قرار أيضاً،  فغاب صوت الناس وراء صوت الفقهاء

وينتقد النيهوم الإجماع كمصدر للتشريع كون الرأي فيه قاصراً على بعض الرجال ذوي صفات معينة (ينفي عنهم صفة العلم) وليس اقتراعاً لكل الشعب أو لغالبيته؛ مما يغيّب فئات من المجتمع أولها المرأة وآخرها الطفل مروراً بالمسن والمراهق،  حيث لا أحد يسمع صوتهم في أي تشريع أو قرار. ويرى النيهوم أن الفقهاء تحوّلوا إلى سلاح إعلامي ديني يتحلّق حول الخليفة أو الأمير لمواجهة المعارضة أو المنافسين والخصوم

وقد ضرب مثلاً لذلك معارك التكفير التي كانت تدبُّ عند التنافس على الخلافة كما حصل عند اعتلاء العباسيين لسدة الخلافة ورميهم الأمويين بإشاعة الكفر،  وكما حصل بينهم وبين الفاطميين في مصر؛ حيث كان كل طرف لديه فقهاء يفتون بعدم شرعية خلافة الطرف الآخر. ويأخذ النيهوم على الفقهاء تجاهلهم المواضيع التي تهم الناس في الحكم والإدارة والقضاء،  وانشغالهم بالطقوس والشكليات

ويتطرق الصادق النيهوم الى قضايا ذات قيمة كبرى في حياة المجتمع العربي كتشخيصه لطبيعة هذا المجتمع بأنه مجتمع رجالٍ أي مجتمع تقوم رؤاه وممارساته على أساس ثقافة ذكورية لا ثقافة إنسانية يبنيها الرجل والمرأة على السواء. فيقول مقدمة كتابه "فرسان بلا معركة": "مجتمعنا مجتمع الرجال،  وذلك لا يعني بالطبع أن جميع مواطنينا من الذكور فقط،  بل يعني بتفصيل أكثر أنه إذا أُتيحت لك الفرصة ذات مرةٍ لكي تتعرف على ثقافتنا من الداخل فلا بدّ أن تكتشف فوراً أنها غير محايدة تسودها وجهة نظر الرجل وحده،  إنّ الفكر الذي ينظر إلى العالم من وجهة نظر الرجل وحده هو فكر متحيّز وغير قادر على التزام الحياد وفق خاصيته،  لكنه يرى الأشياء بعين الرجل ويتجاهل عين المرأة والطفل،  ويتجاهل أيضاً أن هذا الخطأ بالذات يجعله يبدو من الخارج بمثابة فكرٍ أعور،  إنه مُعد لكي يرى نصف الحقيقة فقط"

ويقول النيهوم في مقدمة كتابه "فرسان بلا معركة":"مجتمعنا مجتمع الرجال،  وذلك لا يعني بالطبع أن جميع مواطنينا من الذكور فقط،  بل يعني بتفصيل أكثر أنه إذا أُتيحت لك الفرصة ذات مرةٍ لكي تتعرف على ثقافتنا من الداخل فلا بدّ أن تكتشف فوراً أنها غير محايدة تسودها وجهة نظر الرجل وحده،  إنّ الفكر الذي ينظر إلى العالم من وجهة نظر الرجل وحده هو فكر متحيّز وغير قادر على التزام الحياد وفق خاصيته،  لكنه يرى الأشياء بعين الرجل ويتجاهل عين المرأة والطفل،  ويتجاهل أيضاً أن هذا الخطأ بالذات يجعله يبدو من الخارج بمثابة فكرٍ أعور،  إنه مُعد لكي يرى نصف الحقيقة فقط"

انتقاد النيهوم لذكورية المجتمع ينطلق من خلاله لتفكيك مسائل جدلية في الواقع على غرار مسألة "الحجاب". حيث يرى أن "حجاب المرأة مثل ختان الذكر،  فكرة محلية جدا لم يعرفها أحد سوى سكان الصحراء في العالم القديم.  ولم يكن يحتاج إليها أحد سواهم"،  ويذهب إلى أنها مجرد إجراء وقائي لمكافحة الأمراض لجأ إليه سكان الصحراء نظرا لندرة الماء

ويرى النيهوم أنّ "مشكلة الحجاب ليس بكونه فكرة يهودية خالصة وإنما في القيمة التي يسعى إليها الفقيه المسلم ومعلمه العبراني من قبله إلى إلباسها للمرأة بوجودها الجسدي والمعنوي،  تماماً هذا هو السرُّ الذي يُخفيه الحجاب خلفه فيجعل من المرأة عاراً وجسداً نجساً يجب ستره.  على هذا يبدأ مسار تحرير المرأة من فك الرموز والأحجيات التي تحوم حول وجودها لنصل بعد ذاك إلى (المرأة الجديدة) التي يحدثنا عنها المفكر المصري الراحل قاسم أمين"

وفي العلاقة بين الرجل والمرأة، يرى الصادق النيهوم في كتابه "الحديث عن المرأة والديانات"، أن تحرُّر المرأة من سلطة الرجل بدأَ مع عصر الثورة الصناعية في أوربا، حيث استطاعت المرأة في تلك الفترةِ تحقيقَ استقلالها الاقتصاديِّ عن الرجل،  لكنَّه يُبدي تخوُّفه الشديد من هذه الخطوة؛ لأنَّه يرى أنَّ المرأة قد أخطأت خطأً فادحًا بالانتفاضِ على وظيفتها الأساسية وأحدَثت خللًا بالنظام الوظيفي للأنواع،  ووقعت في فخٍ آخر عندما تحققت لها المساواة مع الرجل

ولذلكَ يرى الصادق النيهوم أنَّ الحلَّ هو أن تلتزمَ المرأة بوظيفتها الأساسيَّة لها وهي الإنجاب والتربية،  ويمكن أن تكون مدرِّسة أو مربية فهو عمل تربويٌّ،  ويمكن أن تعملَ عملًا يدويًا في بيتها بغيةَ تطوير الصناعات اليدوية،  ولذلك فإنَّه كان يطالب بوضع نظام تعليمي يكرِّسُ مهمَّة المرأة التقليدية وهي الحمل والإنجاب والتربية

وعن المرأة أيضا يقول النيهوم:"المرأة ليست الجنس وحده كما تريد الحضارة الأوروبية أن تفترض،  وليست أيضا الخادمة التي تقوم بطبخ وجبة الأرز في البيت الليبي كما تريد حضارتنا أن تفترض،  إنها وجه الحياة الآخر الحافل بكل شيء،  الذي تبدو الحياة بدونه مجرد عرض واحد مثل عالم كلي الظلمة،  بدون النهار،  أو عالم كلي السطوع بدون ليل"

ويتجه الصادق النيهوم الى مسألة التعليم في العالم العربي ويناقش مناهج التعليم التي ينتقدها بشدة كونها تعمل على الحد من استعمال العقل وتمنع التفكير العلمي وتُلزم بالتفسير الذي اشتقه فقهاء دينيون خدمة لسلطة الإقطاع السياسي. ويقول النيهوم "خلال الخمسين عاماً التالية كان نظام التعليم قد أصبح وسيلة شرعية لتسليم ملايين الأطفال العرب في عهدة فقيه جاهل يتولى حشو أدمغتهم بمعلومات موجهة عمداً لشلّ عقل الطفل وتدمير قدراته على التفكير المنطقي"

ومن الأفكار البارزة التي قال بها النيهوم؛ ربطه ما بين الديمقراطية والنظام الرأسمالي،  واعتبر الديمقراطية نتاجاً مرتبطاً تاريخياً بنشوء النظام الاقتصادي للرأسمالية؛ وجاء نتيجة ملحّة لضرورات التجارة وحركة رأس المال،  وكذلك اعتبر حرية الإعلام والصحافة والتعددية الحزبية أيضاً من لوازم النظام الرأسمالي ومرتبطة به تاريخيا

ويخلص النيهوم من ربطه ما بين الديمقراطية والرأسمالية إلى أن الأمم التي لم تتشكل مجتمعاتها وفق النظام الرأسمالي، لا تستطيع تطبيق الديمقراطية،  ويفسر ذلك أن النظام الرأسمالي استطاع ضرب الإقطاع وحلّ محلّه وأنشأ علاقات جديدة تقوم على حرية تحرُّك رأس المال الذي يحتاج إلى حرية إعلام وحرية صحافة وحرية تكوين الجمعيات والأحزاب واستقلال القضاء

أما في المجتمعات المتخلفة والتي لم تنجز المشروع الرأسمالي ولم تكن شريكة فيه ولم تتخلّص من الإقطاع بعد، فيرى النيهوم أن الديمقراطية تمثل عبئاً عليها وزياً غير مناسب لها،  والحل لديه هو "الشورى" التي يعرفها النيهوم كمفهوم مختلف عن الديمقراطية،  حيث يقول:"إن الشورى مصطلح آخر،  من إدارة مختلفة أخرى،  لا تقوم على التمثيل النيابي أو الحزبي،  بل تقوم على المشاركة الشخصية للمواطن نفسه،  في مؤتمر له سلطة أعلى من سلطة الدولة،  يرتاده المواطن في موعد محدد،  لكي يضمن من خلاله إشرافه المباشر على أداة الحكم"

يمكن القول بأن الصادق النيهوم سعى جاهدا للبحث في لأكثر الموضوعات حساسية في المجتمع العربي، ولامس بكتاباته وأفكاره وضع العرب الذين برتبطون ارتباطا وثيقا بالماضي والسائد والعادات في وقت يتمسكون فيه بالحياة العصرية الحديثة، ويشير النيهوم الى ذلك بقوله "التناقض قائما وحادا في صراعهم الحضاري من أجل التقدم وبين تقديسهم لتاريخهم"

لا شك في أن الصادق النيهوم الذي بحث في التراث ووضعه تحت مجهر النقد والمساءلة ليعيد غربلة هذا التراث وتمحيصه أو حسب تعبيره "تنقية ذلك التراث من أخطائه،  وليس حفظه فوق رفوف المكتبة وفرضه على أولادنا الصغار بدافع التعصب وحده"، والذي انتقد سطوة الأفكار السائدة، أراد الخروج بالانسان العربي من مرحلة المتقبل للأفكار الى مرحلة التفكير والابداع

ولم تقتصر إسهامات الصادق النيهوم على مجال الفكر والأديان،  إنَّما لمعَ في عدَّة ميادين أدبيَّة أخرى،  فقد كتب في مجال النقد والمقالات -كما سبق- والقصة القصيرة والرواية إلى جانب تجربته في مجال الصحافة والتي نجحَ فيها ومضى فيها حتَّى وفاته عن عمر يناهز 51 عاما في جنيف – سويسرا ليسدل الستار واحدا من أهم الأعلام الليبية والعربية في الأدب والفكر،  ومن أعظم من كتب المقالة الفكرية في الصحف العربية في القرن العشرين