كلّف رئيس الجمهورية التونسية في التاسع والعشرين من شهر سبتمبر، عالمة الجيولوجيا نجلاء بودن البالغة من العمر 63 عاما والبعيدة كل البعد عن الأحزاب وصخب الحياة السياسية، حسب ما أكده الخبراء،بتشكيل الحكومة التونسية القادمة. لتكون بذلك أول امرأة رئيس حكومة تونسية وعربية. ورغم ما حملته هذه الخطوة من مؤشرات إيجابية لانفراج الأزمة السياسية بتونس وتجلي الغموض الذي أحاط بالتدابير الإستثنائية و"فترة الركود والانتظار" التي تلت حراك 25 يوليو وماصاحبه من قرارات رئاسية، إلا أن حكومة بودن تقف على أعتاب فوهات أزمات متعددة الجهات والقطاعات ما يجعل من رهانها على إنجاح المسار الإنتقالي مهمة صعبة للغاية بل ويصفها الكثيرون"بالشبه مستحيلة".
أطلق الكثيرون على حكومة نجلاء بودن التي لم تشكل بعد لقب" حكومة الملفات الصعبة"، حيث يجمع الخبراء التونسيين والدوليين على أن هذه الحكومة تواجه أصعب وأخطر الملفات الشائكة لعل أشدها تعقيدا التركمات الاقتصادية والمالية في دولة تشارف على الإفلاس وتسابق الزمن من أجل الحصول على قروض من هنا وهناك وخاصة بعد الملف الثقيل المثير للجدل الذي قدمته حكومة هشام المشيشي خلال مشاوراته مع البنك الدولي. فمن سوء حظ الحكومة الجديدة أنها مطالبة بإصلاح ما أفسدته 14 حكومة متعاقبة منذ 2011 ذلك عدا عن ما تراكم في الفترات السابقة.


طيلة "العشرية السوداء" أنهكت الحكومات والأحزاب المتناحرة البلاد وقادتها إلى عدم الاستقرار السياسي الذي أثر بدوره على كل المرافق الحيوية بالبلاد بدءا باقتصادها "الميت سريريا" خاصة مع الخطوط المستقيمة السقوط الرأسي لعديد المؤشرات الاقتصادية مع ميزانية عاجزة تماما وترقيع متواصل لها وديون متراكمة تضاعفت 3 مرات بين 2010 و 2020 لتقفز ديون تونس العمومية إلى 112 مليار دينار 2021 مقارنة بـ100 مليار دينار السنة الماضية، ليصل بذلك نصيب كل فرد تونسي من إجمالي الديْن إلى 9 ألاف و300 دينار وذلك حسب بيانات نشرتها جريدة الصباح التونسية.
وكانت الدولة قد حددت في قانون المالية لسنة 2020 حجم  الديون العمومية ب100 مليار دينار بما فيها القروض التي تحصلت عليها زمن الأزمة الوبائية وانطلقت في سدادها في الربع الثاني من  السنة الحالية. و للإشارة فانّ نصف ديون تونس العمومية والتي انطلقت في سدادها هي بالعملة الصعبة وحجمها سيكون قابلا للتغيير باعتبارها تخضع لسوق الصرف ولسعر الدينار التونسي مقابل العملات الأجنبية المرجعية.
ذلك  إضافة إلى تفاقم الديون الخارجية التي تجاوزت مائة في المائة وحُدّدت قيمتها بــ80.9 مليار دينار (30.3 مليار دولار) مع نهاية سنة 2020 حسب تقديرات مروان العباسي محافظ البنك المركزي. كما أظهرت بيانات المعهد التونسي للإحصاء، تسجيل اقتصاد البلاد تراجعا قياسيا لمعدل النمو بنسبة 8.8% في العام الماضي، وارتفاع نسبة البطالة إلى 17.4%. كما تنامت معدلات الفقر %15.2 في 2015 إلى 20.2 % في 2020 وتدهور المقدرة الشرائية وتهاوي الدينار مقابل العملات الأجنبية إضافة من  ارتفاع معدلات البطالة من 15.4 % في 2015 إلى 17.4 % في 2020، حسب الإحصائيات الرسمية.

في هذا السياق يفيد خبراء اقتصاديون أن ملف المديونية ثقيل جدا ولن يكون من السهل إيجاد حلول له على المدى القصير كما استبعدوا إمكانية استعادة المالية العمومية التونسية عافيتها وتوازنها واعتبروا مهمة الحكومة الجديدة عسيرة بل وشبه مستحيلة إلا إذا تم الإعتماد على خبراء متمرسين قادرين على صياغة خارطة إنقاذ للاقتصاد الوطني المنهار تماما. ويعتبر المراقبون والمحللون أن الملف الاقتصادي هو أبرز رهانات الفشل والنجاح أمام حكومة بودن وستجزم الخطوات المتخذة بداية بتعيين وزير مناسب لإدارة وزارة المالية التونسية وصولا إلى خطة عمل محكمة لإنقاذ البلاد من الوضع الخطير الذي قادها إلى الإفلاس.
وتحتاج تونس في هذا الإطار إلى استعادة ثقة الشركاء الاقتصاديين البارزين على غرار الاتحاد الأوروبي  والمؤسسات المالية الدولية وهو أمر صعب خاصة مع التوتر السياسي الحاصل بالبلاد والفشل الاقتصادي الذريع الذي تواجهه.
وقد أفاد تقرير للبنك الدولي أن  تونس سجلت  تراجعا أكثر حدة في معدل نموها الاقتصادي بالمقارنة مع معظم البلدان المماثلة في المنطقة، حيث شهد الاقتصاد تباطؤ معدل النمو وتصاعد مستويات المديونية. وانكمش معدل نمو إجمالي الناتج المحلي بنسبة 8.8% في عام 2020، وارتفعت البطالة من 15% قبل الجائحة إلى 17.8% بنهاية الربع الأول من 2021، ومازالت تؤثر بوجه خاص على النساء (24.9%) والشباب في الفئة العمرية 15-24 عاماً (40.8%).
و في تقرير حول الأسباب المؤدية لحراك 25 يوليو/جويلية وقرارات الرئيس التونسي الإستثنائية تقول صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية " إن ارتفاع معدل البطالة وتفاقم الفقر وتزايد محاولات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا بين الشباب التونسي، أدت إلى خيبة أمل وإحباط كبير عقب عقد من الديمقراطية."
وحسب تقرير البنك الدولي الذي تم نشره خلال السداسية الأولى من العام الحالي، فإنه من المتوقع أن يتزايد الفقر والمعاناة، ففي عام 2020، ظل معدل الفقر المدقع، المحسوب باستخدام خط الفقر الدولي البالغ 1.9 دولار للفرد في اليوم، دون 1% في تونس، ولكن التقديرات أشارت إلى أن معدل الفقر وفقاً للخط البالغ 3.2 دولارات للفرد في اليوم قد ارتفع من 2.9% إلى 3.7%. علاوة على ذلك، من المتوقع أيضاً أن ترتفع نسبة السكان "الذين يقفون على حافة" السقوط في براثن الفقر. وباستخدام خط فقر قدره 5.50 دولارات للفرد في اليوم، من المتوقع أن يرتفع عدد الفقراء والذين يقفون على حافة السقوط في براثن الفقر من 16.7% إلى 20.1% من إجمالي عدد سكان البلاد البالغ نحو 11.7 مليون نسمة (البنك الدولي 2021، 2019).
من جهة أخرى يعتبر الفساد أكثر الملفات الحرجة المطروحة بقوة بالبلاد التونسية وأيضا أصعب التحديات هي الأخرى المطروحة أمام الحكومة التونسية الجديدة برئاسة نجلاء بودن، وقد أعلن الرئيس التونسي في سياقات عدة عن ملفات فساد ثقيلة وتوعّد بمحاسبة الفاسدين كما شدد خلال تكليف بودن بتشكيل الحكومة على مقاومة الفساد قائلا "سنعمل معا للقضاء على الفساد والفوضى التي عمت الدولة في عديد المؤسسات"،  ويتطلع الشعب التونسي لخطوات فعلية لمحاربة هذه الآفة التي عصفت بالبلاد و تسببت في أسوأ الأزمات بها في كل القطاعات. ففي أحدث تقرير لها نشر في نهاية العام 2020، صنفت منظمة الشفافية الدولية تونس في المرتبة 69 في مؤشر الفساد وفي إحصائيات  للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد فإن تونس تخسر سنويا جراء الفساد نحو 8.4 مليارات دينار تونسي.


وبالإضافة إلى الملف الاقتصادي والإجتماعي واستشراء الفساد بالبلاد والوضع السياسي المتوتر على خلفية التدابير الإستثنائية لرئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد، تحارب تونس على غرار كافة دول العالم تفشي وباء كورونا ببنية صحية "مهترئة ومتداعية". فرغم ما حققته تونس من تقدم هام في عملية التلقيح بفضل المساعدات الخارجية التي تلقتها بعد موجة الوباء القاتلة التي أودت بحياة آلاف التونسيين في "مأساة" سارع العالم أجمع فيها لإنقاذ تونس من براثن الوباء، إلا أن الوضع لايزال غير مستقرا لعزوف الكثيرين عن التلقيح أولا ولمواصلة كورونا تفشيها عبر العالم بمتحورات معقدة منها من يقاوم التلقيح.
فبقدر ما بدى تعيين نجلاء بودن على رأس الحكومة التونسية ،كأول امرأة تونسية وعربية تتقلد هذا المنصب، خطوة إيجابية نحو "تونس جديدة وتصحيح لمسار الثورة" واستجابة "وقتية" لتطلعات التونسيين خاصة بعد الأحداث الأخيرة المتسارعة التي هزت البلاد وأفرزت تطورات كثيرة على الساحة السياسية، إلا أن مهمة حكومة نجلاء بودن أصبحت "صعبة للغاية" حيث تكبلها الإلتزامات من ثلاث جهات، أولا لن يقبل الرئيس التونسي بخيبة أمل أخرى في اختيار الشخص المناسب، بعد اختياره لهشام المشيشي، لمهمة تشكيل حكومة تنقذ البلاد أما ثانيا فإن التحديات والتراكمات كثيرة وعسيرة وتتطلب" معجزة حقيقية" لحلها وتجاوزها أما ثالثا وهو الأهم فإن الشعب التونسي هو من اتخذ قرار تغيير الوضع العام بالبلاد في حراكه العفوي الشهير يوم 25 يوليو/ جويلية ليفرض إرادته ويوقف نزيف الأزمات التي عصفت به كما عبر في محطات عدة عن ارتياحه ومساندته لقرارات الرئيس التونسي منذ ذلك التاريخ، آخرها كان في المظاهرات الحاشدة التي هزت وسط العاصمة التونسية الأحد الماضي. فهل ستنجح حكومة بودن أمام هذه" الملفات الصعبة والشائكة" وتستجيب لإرادة وتطلعات الشعب التونسي؟.