تواجه تونس منذ سنوات استشراء غير مسبوق للفساد والأزمات على كل الأصعدة، فإذا لم تستثني الأزمات مجالا بدءا بالسياسي مرورا بالإقتصادي وصولا إلى الاجتماعي والصحي، فإن الفساد تغلغل في كل مفاصل الدولة التونسية حسب ما أثبتته الإحصائيات والأرقام المحلية منها والعالمية، ودعّمه الخبراء والمحللون. 

قال الرئيس التونسي قيس سعيّد، في تصريح إعلامي خلال زيارته لباريس منذ أيام قليلة، أن الدولة التونسية تشهد حالة من الفساد المستشري "كأسراب الجراد"، مؤكدا أن "تونس تملك كل الثروات ولكن للاسف كلما زادت النصوص زادت اللصوص". وتساءل الرئيس التونسي هل أن البلاد"بالفعل دولة فقيرة ام انها دولة نهبها من نهبها من الداخل؟ ". يقول المحللون في هذا السياق أن تونس لم تتعرض فقط للنهب بل واجهت"أعظم استنزاف" طال  كل هياكلها وقطاعاتها، وسلك القضاء أيضا.

احتلت تونس المرتبة 69 عالمياً ضمن مؤشر مدركات الفساد لسنة 2020 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، وفق بيان لمنظمة انا يقظ (منظمة رقابية تونسية) التي تمثل المنظمة الدولية في تونس. وكشف المؤشر ان المرتبة التي تحصلت عليها تونس هي الأعلى منذ 10 سنوات، وآخرها المرتبة 74 سنة 2019.

واعتبرت المنظمة انه رغم هذا التقدم  الضئيل فإن تونس ، لازالت دون معدل 50 نقطة، وهو ما يعكس نقصا فادحا في مقومات الحوكمة والشفافية في القطاع العام تزامناً مع التضييقيات الممارسة على المبلغين عن الفساد في القطاع العام. 

وشددت أنا يقظ،على أهمية الإرادة السياسية والقضائية في انفاذ القوانين ذات العلاقة بشفافية الحياة العامة. وأوصت بضرورة تعزيز قوة المؤسسات الرقابية وبأن يكون لدى سلطات مكافحة الفساد والمؤسسات الرقابية ما يكفي من الأموال والموارد والاستقلالية التي تمكّنها من أداء واجباتها ، وضمان وجود معاملات تعاقد مفتوحة وشفافة لمكافحة ارتكاب المخالفات، وتحديد تضارب المصالح، وضمان التسعير العادل.


ملف الفساد في تونس ثقيل ولا ينفك يعود إلى الواجهة في كل محفل ليعرقل مساعي الدولة التونسية للخروج من بوتقة الأزمات والتراجع الرأسي الحاد لكل مقومات التنمية والإصلاح سواءا السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي ما تسبب في أضرار وخيمة عقدت الوضع السياسي في البلاد وعطلت الاقتصاد الوطني الذي ينهار بقوة ويشارف على الإفلاس، وفاقمت الوضع الاجتماعي حيث تزعزعت الطبقات الاجتماعية وانهار بعضها فيما اندثر بعضها وتجاوز خط الفقر في أسوأ أزمة تشهدها البلاد على الإطلاق.

مثل النصف الثاني من العام 2020، انفجارا لأوجه عديدة من الفساد في تونس بدأت بقضية شبهة تضارب المصالح التي لاحقت أعلى هرم في السلطة التونسية ،رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، و التي أكدتها  هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد (دستورية مستقلة) بوجود "شبهة تضارب مصالح لرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، لامتلاكه أسهما في شركات تتعامل مع الدولة تجاريا وهو ما يحجّره (يحظره) القانون".

وطفت عدة ملفات فساد متنوعة طالت كل المجالات بدءا بـملف "القمح الفاسد" المستورد الذي تورط فيه  موظفين تابعين لوزارة الصحة تم إيقافهما لعدم إجرائهما التحاليل الضرورية على شحنة القمح المستورد، قبل نقلها خارج الميناء للاستهلاك، إضافة إلى تواتر ذكر  أطراف أخرى على علاقة بالقمح الفاسد، من بينهم موردون خواص وموظفون كبار في الدولة.

لتثير بعد ذلك فضيحة النفايات الإيطالية  ضجة كبير داخل الرأي العام التونسي،لتطيح بشخصيات عليا  في الدولة، حيث تم إعفاء وزير الشؤون المحلية والبيئة مصطفى العروي، من مهامه، كما تم إيقاف 12 شخصا، من بينهم مدير الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات ومدير ديوان وزارة البيئة ومديرون في الوكالة الوطنية لحماية المحيط، ومسؤولون في الجمارك، بعد أن تم  الكشف عن شحنة تضم أطنانا من النفايات المنزلية القادمة من إيطاليا نحو ميناء سوسة (شرقي تونس)، بهدف التخلص منها بطريقة غير قانونية في إطار صفقة توريد فاسدة تحت غطاء النفايات القابلة للتدوير.

ثم ليكشف النقاب لاحقا عن تجاوزات في الحملات الانتخابية لسنة 2019 وذلك بعد أن سلمت دائرة المحاسبات رئيس الجمهورية في نوفمبر الماضي، التقرير العام حول نتائج مراقبة تمويل تلك الحملات.

وفي حربها "المزعومة" على الفساد سعت الدولة التونسية إلى ردع بعض الشخصيات البارزة   بالبلاد على غرار رجل الأعمال شفيق جراية الذي تم إيقافه بتهمة  "تدليس عقود بيع أملاك مصادرة"، ليتم الجكم عليه خلال هذه الأيام بـ 10 سنوات سجن، ورئيس حزب قلب تونس نبيل القروي الذي تم إيداعه في السجن، في قضية التهرب الضريبي وتبييض الأموال التي رفعتها ضده منظمة "أنا يقظ" في سنة 2016، على خلفية رصد 143 مليون دينار مجهولة المصدر، وسامي الفهري صاحب قناة الحوار التونسية الذي تم إيقافه في قضايا الفساد هذه تتعلق بشركة "كاكتوس برود" المتهمة بالاستيلاء على أموال التلفزيون الرسمي قبل 2011كما تتالت المطالب برفع الحصانة عن عدد من النواب تتعلق بهم قضايا فساد.

وطالت شبهات الفساد وزراء حكومة هشام المشيشي بعد التعديل الذي أجراه بداية 2021 والتي اعترض عليها الرئيس التونسي قيس سعيد بشدة مفيدا أنه يخالف الدستور الذي يقضي التشاور في التعديل ومؤكدا أن بعض الوزراء الجدد تدور حولهم شبهات تضارب مصالح. من جهته أكد رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بتونس،أن بعض الوزراء في الحكومة الجديدة تحوم حولهم شبهات فساد دون الخوض في التفاصيل .

من جانبها وصفت منظمة "أنا يقظ"،التعديل الوزاري المقترح بأنه تعديل يضم أسماء مشبوهة مثيرة للجدل تم اعتمادها في إطار حسابات حزبية وسياسية، متهمة  رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي، بعدم الاتعاظ من أخطاء سابقيه، مذكرة إياه بأن تضارب المصالح كان السبب المباشر في استقالة حكومة إلياس الفخفاخ. وشددت المنظمة  على ضرورة التحري، والتأكد من حسن اختيار أعضاء الحكومة، والابتعاد عن التعيينات التي وصفتها المنظمة بالمشبوهة وتكرّس فكرة الحصانة السياسية.

تعتبر الملفات الآنف ذكرها مجرد عينات من الفساد المستشري بالبلاد والذي اتخذ أوجها عدا وطال كل القطاعات حتى الاجتماعية منها والتي تهدد حياة المواطن التونسي البسيط على غرار سقوط طفلة صغيرة في بالوعة للصرف الصحي، نظرا لمخالفات الفساد في صيانتها وسقوط شابة في منشأة مائية لتصريف مياه الأمطار، ووفاة طبيب مقيم في أحد المستشفيات ، نتيجة اهمال وفساد في صيانة المصعد، والحالات كثيرة ومتعددة وربما "لاتحصى" راحت ضحايا الفساد والإهمال ونهب المال العام.

يعتبر كل مجال في تونس فرصة للفساد والإستغلال، فحتى الجائحة الوبائية جراء فيروس كورونا طفت حولها ملفات فساد كثيرة بدءا بالتحاليل المزيفة والباهضة الثمن وصولا إلى المحسوبية في أولوية التلقيح و قد كشفت التقارير المتوفرة وفق منظمة أنا يقظ، أن الفساد منتشر في جميع مراحل الاستجابة لكوفيد-19، من الرشوة إلى اختبارات كوفيد-19، والعلاج، والخدمات الصحية الأخرى، إلى الصفقات العمومية من الإمدادات الطبية والتأهب لحالات الطوارئ.

 وفي هذا الجانب لفتت أنا يقظ الي غياب الشفافية المطلقة من قبل وزارة الصحة في إدارة أزمة كوفيد-19 منذ بدايتها وعدم نشر البيانات الصحية بشكل مفتوح، معتبرة أن ذلك يعيق تقدم دراسات الوضع الصحي في تونس بشكل علمي وموضوعي.كما أكدت المنظمة غياب الشفافية والمعلومة المحينة في التصرف في صندوق ،1818 ، صندوق تبرعات ساهم بها المواطنون التونسيون   لمجابهة فيروس كورونا، وهو ما من شأنه مزيد إضعاف ثقة المواطنين في المرفق العمومي. "

من جانب آخر وكوجه آخر للفساد، راجع البنك الدولي قيمة قرض ممنوح لتونس لتمويل مشروع "التصرّف المندمج في المشاهد الغابيّة" من 93 مليون أورو إلى 48 مليون أورو تبعا لضعف الإنجاز والفساد، وفق وزير الفلاحة والصيد البحري والموارد المائية بالنيابة، محمّد الفاضل كريّم، حيث كشف  أنّ عمليّة التقييم خلصت إلى أنّ المشروع لم يقم باستهلاك الأموال المخصّصة له وأن انجاز مختلف مراحله، لم تتجاوز إلى حدود شهر أفريل 2020 نسبة 9،6 بالمائة.

هي بعض أوجه الفساد الذي ينخر البلاد التونسية ويتسبب في أسوأ آزاماتها على الإطلاق إذا تقف البلاد في أخطر منعرجات الإفلاس والإنهيار الاقتصادي،إضافة إلى تدهور المقدرة الشرائية للمواطن وسقوط الكثير من الفئات تحت خط الفقر في ظل جائحة عالمية عصفت بأعتى الدول والإقتصادات، تحت غطاء ومشهد ساسي عام متوتر ومفكك .