الحديث عن الصادق النيهوم في ليبيا، هو حديث عن حالة فريدة. يقول بعض المثقفين إنك عندما تتحدّث عن الرجل وكأنك تتحدّث عن ظاهرة سمّيت باسمه. في فترة من الفترات كان بالإمكان الحديث عن مدرسة "الفكر النيهومي"، هي مدرسة الرفض والتمرّد على المسلمات. النيهوم هو كاتب ومفكر استثنائي في الثقافة الليبية، آمن بالإنسان بعيدا عن الحدود معتبرا أن العقل سيّد الأشياء وأن الإنسان لا يكسب قيمته بانتمائه العرقي أو الجغرافي بل بما يقدّمه للناس. هو حالة فريدة ليس في ليبيا فحسب بل في كامل المنطقة العربية والعالم، سطع نجمه في ستينات القرن الماضي من خلال أسلوبه الخاص في الكتابة وخروجه عن قوالب المألوف في المجتمع الليبي.

رحلة النيهوم مع الثقافة والفكر انطلقت من بنغازي، ففيها ولد ودرس، وهي المكان الذي حلّق منه نحو عوالم رأى أنها قادرة على استيعاب مخزونه الفنّي في الكتابة. في عوالم الغربة الكثيرة عاش مخاضا فكريا، يحمل بذوره من أيامه الأولى في بلاده، تبنى فيه فكرة اليسار بما مثل عليا في الإنصاف والتمرّد على سلطة المال، وفكرة التديّن بما هي حالة وعي تعتمد على العقل بعيدا عن القوالب المغلقة للفقهاء، وأيضا فكرة المرأة بما هي كيان حر لا يجب أن يكون خاضعا لسلطة الرجل والمجتمع.

الصادق النيهوم رجل بلا أيديولوجيا في السياسة، لكنه مثقف حامل لمشروع فكري مخالف. قد يكون يساري في المطلق، لكنه يفكّر خارج المدارس التقليدية. حتى عندما يتحدّث عن كارل ماركس بإعجاب كان يعتبر أن ما جاء به هو من صميم الإسلام. في كتاب "محنة ثقافة مزورة.. صوت الناس ام صوت الفقهاء"، طوّع النيهوم المقولات الماركسية تطويعا كاملا داخل الأفق الإسلامي، ربّما يكون هنا قد تعسّف قليلا على الفيلسوف الألماني، لكنه في كل الحالات قدّم ما يريد أن يبلغه في علاقة بالفكر اليساري داخل المنظومة الإسلاميّة. دافع النيهوم في كتابه بكل قوة عن ماركس وعن فكرة اليسار، منتقدا بحدّة المنظومات الفقهية الإسلامية التي تلقت صورة اليسار وفق رؤية رأسمالية معادية. يقول في كتابه إن "ثقافتنا العربية المعاصرة لا تعرف كارل ماركس، تعرف ما سمعته عنه من أعدائه الرأسماليين وحدهم‏‏. وهم طرف منحاز في أصل القضية". وقد نجحت المنظومات الفقهية الإسلامية في ترسيخ فكرة العداء للماركسيّة بزعم الإلحاد ورفض الدّين، وهي تهم يدحضها النيهوم ويرى أن الإسلام جوهر رئيسي فيها بما هي العدل وتخليص الإنسان من العبوديّة.

ما جاء في كتاب "محنة ثقافة مزورة" هو نوع جديد من التفسير القرآني وجرأة كبيرة على المقولات الإسلامية المتوارثة، كما أنه نوع من الحرب الخفيّة ضد مؤسسات دينية مترهّلة خاضعة لا تملك تحصينات فكرية لنفسها تجعلها تنافس الأمم الأخرى فيما تنتجه. الواقع أن النيهوم تبنى موقفا رافضا من رجال الدين في مرحلة مبكرة، ففي تسجيل قديم نشره تلفزيون الغد في برنامج عن حياة الرجل، قال إن فهم الدين يجب أن يكون عبر اعتباره وسيلة وليس غاية في ذاته، وهو عمل ومبدأ ومنهج وموقف عقلي ليس تجاه القضايا الدينية فحسب بل تجاه كل القضايا التي تهم الناس. كأننا بالرجل بدأ صراعه مع الإسلاميين مبكرا.

الأمر ذاته تقريبا، تناوله في كتابه "إسلام ضد الإسلام"، الذي انتقد فيه الأحزاب الدينية عندما قال إن "أقصر طريق يسلكه الحزب السياسي لكسب المعركة على السلطة، هي أن يلبس جبة الدين، ويطالب الدولة بتطبيق قوانين الشريعة. لكن مشكلة هذا الطريق القصير، أن قوانين الشريعة بالذات، لا تطبقها الدولة بل يطبقها المواطن. فإذا مرّت المغالطة، ونجحت الأحزاب الدينية في مسعاها، وتمّ تطبيق قوانين الشريعة في دول الوطن العربي، حتى صار لكل حكومة بوابة رسمية على الجنة، فإن المواطن العربي شخصياً، سوف لن يشارك في هذا العرس، ولن يؤدي فيه دوراً نافعاً، سوى أن يحمل الطبل والحطب. إنه لا يستطيع أن يطبق الشريعة حتى بمعونة من فقهاء الحزب".

في كتاب "الإسلام في الأسر" كانت هناك أيضا جرأة واضحة. لم يكن أحد يتحدّث عن القواعد الأساسية في الإسلام باعتباره لدى الغلبية من المسلمات. العقل الإسلامي ترسخت عنده أن قواعد الإسلام خمسٌ، لكن النيهوم كان له رأي آخر. المفكّر الليبي اعتبر أن هذه المسلّمة لا ثبوت لها في الإسلام، باعتبارها أهملت جانبا أساسيا في تنظيم حياة النّاس وهو الحكم، فغياب الحديث عن الحكم في تلك القواعد يعتبر ثغرة فقهيّة قد تكون فرضتها التحولات السياسية في فترة الحكم الأموي.

من المؤكّد أن دراسته للفسلفة والأديان المقارنة، واطلاعه على الثقافات الغربيّة التي بلغت أشواطا كبيرة من التقدّم، ساهما في صناعة مفكّر متمكّن ومجدد متمرّد يرى أن الكون أفقه كبير وواسع وليس مخلوقا فقط من أجل العرب أو المسلمين، مؤكّدا أن العقل هو ميزان السير نحو المستقبل أو كما قال في كتابه "نقاش" إن العقل "حياة أخرى. حياة أرقى من مرحلة الحياة الدنيا المقامة على حلول الغرائز. إنه مرحلة أعلى وأكثر فعالية" في حياة الناس.

الإسلام الذي آمن به النيهوم هو إسلام آخر مختلف غير رافض للتطوّر وغير منضبط لمكبلات فقهيّة فرضت عليه نوعا من الأسر وجعلته رهينا لمفاهيم خاطئة خلفت مؤسسات متداخلة تمارس الدكتاتورية في مختلف مظاهرها السياسيّة والدينية وفرضت على الإنسان المسلم نوعا من العبودية التي لم يتخلّص منها إلى اليوم. هو مشروع تجرأ على الإصداح به رغم أنه كان يسير خارج السياق الإسلامي العام الذي تعوّد لسنوات على تقاليد النقل الرافضة للاجتهاد. وسدد مئات الأسئلة العميقة والقاسية لهذا التراث.

الحديث عن النهيوم، هو حديث عن مثقف لم ينل الحظوة التي تليق به في السياق العربي. لكنه في كل الأحوال لم يكن باحثا عن شهرة أو مجد. كان متمردا في فكره متجرئا على تقاليد رأى إنها لم تعد تصلح لمجتمع عربي مكبّل، مستحضرا في ذهنه ما بلغته الحضارة الغربيّة في مختلف العلوم رغم إيمانه بأن أي إصلاح مجتمعي لا يمكن أن يكون إلا من داخله وهذا ما كان يدعو إليه الليبيين والعرب عموما.