يرتبط الخبز في حياة التونسي ارتباطا وثيقا بلقمة العيش، في اللهجة العامية التونسية "خبزة التونسي"هي عمله ومصدر قوته الذي يعتبره مقدسا ولا يمكن المساس به. أما خبز الإستهلاك فتجاوز عند التونسي مجرد خليط من القمح أو العجين أو الشعير إلى غداء يومي لا يكاد يغادر طاولة الإفطار من الصبح إلى المساء وفي كل وقت يخرق فيه التونسي قانون الحميات والوجبات.

تشتهر تونس بلقب "مطمور روما" نظرا لما كانت توفرها للإمبراطورية من منتوجات فلاحية على رأسها القمح والشعير المكون الرئيسي لصنع الخبز، فتاريخ الخبز في تونس قديم جدا وعلاقة الخبز بالموائد التونسية تاريخي. 

يرتبط الخبز أيضا عند التونسيين "بالانتفاضات" و"الثورات" كان أشهرها أحداث أو انتفاضة الخبز، الإنتفاضة الاجتماعية العنيفة التي عرفتها تونس في جانفي 1984 بعد زيادة سعر الخبز وعدد من السلع الأساسية، وهي انتفاضة تاريخية لا تزال أحداثها المرتبطة "بالخبز " تروى وتحتل مكانة كبيرة في المشهد التاريخي التونسي. وحتى في "ثورة 14 يناير 2011" كان الخبز حاضرا في الإحتجاجات التي اجتاحت تونس والمطالبة بإسقاط النظام أين ردّد شعار" خبز وماء وبن علي لا" وكان "الخبز" حاضرا بنفسه بين أيدي المتظاهرين كرمز للقمة العيش ورمز للكرامة في آن.

صنف التونسيون، حسب دراسة إيطالية صدرت في مارس 2021، بالمرتبة الثانية في استهلاك الخبز والمعجنات حيث بلغ استهلاك الفرد التونسي حوالي 17 كيلوغراما سنويا بعد الإيطالي الذي يستهلك 23.5 كيلوغراما سنويا. وكشفت الدراسة إيطالية أنه من بين تبعات جائحة الكوفيد العالمية على تونس هو ارتفاع استهلاك المعجنات بما في ذلك الخبز والمقرونة. ويعد التونسيون من الخبز أنواعا وأنواعا كثيرة من "الباقات"، "الخبز العربي" ،"الخبز المبسس"،"خبز النخالة" و" الخبز الأسمر" "وخبز النخالة" و"خبز القمح" والخبز الكامل"و خبز الشعير" والقائمة تطول. 

وقد تناول التونسيون، خلال فترة الإغلاق والحجر الصحي لمكافحة جائحة كورونا، الإفراط في استهلاك المعجنات ونفاذ "السميد"، الذي تصنع منه عجينة الخبز بتندر وطرافة وغزت فيديوهات وصور صناعة الخبز و"الفريكاسي التونسي، الذي هو عبارة عن قطعة خبز صغيرة الحجم محشوة بالبيض والبطاطا المهروسة والهريسة والتن، مواقع التواصل الإجتماعي وباتت حديث التونسيين خلال الموجة الأولى من الجائحة!

و خلال جولة صغيرة قمت بها اليوم، في بعض أحياء العاصمة، كانت صفوف المواطنين الطويلة أمام المخابز وحتى في الفضاءات العامة، مشهد غريبا، بلغ حد الشجار من أجل الخبز، وذلك على خلفية الإعلان عن إضراب أصحاب المخابز لمدة 3 أيام !. فلم تكد المخابز تعلن عن إضرابها حتى تدافع التونسيون إلى الإصطفاف أمام المخابز طلبا للخبز الذي يعد إستهلاك التونسي له حسب الملاحظين"جنونيا" وكذلك إلقاؤه ضمن الفضلات اليومية "مفرطا".

في دراسة أعدها المعهد الوطني للاستهلاك تحتل تونس المراتب الأولى عالميا في استهلاك الحبوب بنحو 180 كلغ للفرد في السنة مقابل معدل عالمي في هاته المادة بحوالي 123 كغ للفرد في السنة. و يتم يوميا تصنيع حوالي 5 مليون خبزة في تونس (باقات وخبز كبير)، يتم صنعها بـ600 ألف طن من الفارينة، أي بمعدل 50 ألف طن فارينة في الشهر. 

و تنفق الدولة حوالي 35 مليون دينار سنويا على الخبز أي بمعدل 200 دينار للأسرة الواحدة. وخلال شهر رمضان، ورغم تراجع عدد الوجبات، فإن المستهلك التونسي يزداد استهلاكه للخبز بـنسبة 135 . وأفاد  المعهد أن كيس الخبز القديم بـ50 كلغ تباع بين 7 إلى 9 دينارات لمربي المواشي المختصين في التسمين، وتستورد الدولة 80 بالمائة من حاجياتها من القمح اللين، أي أن 4 باقات من 5 مستوردة. وتمثل واردات الحبوب لوحدها 51 بالمائة من واردات تونس الغذائية.

رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك لـ"المصدر": هكذا سنحمي المقدرة الشرائية  للمواطن في رمضان".. | المصدر تونس

من جانبه  أكد رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك سليم سعد الله، في تصريح إعلامي أن هذه النسب ترتفع في شهر رمضان مؤكدا أنها ارتفعت خلال شهر رمضان الماضي  بنسبة 50% مقارنة بالاستهلاك العادي. فالخبز عند التونسي لا يغيب عن أي وجبة هو يتناوله حتى مع المعجنات الأخرى كالكسكسي والمقرونة، مؤكدا أنه يتم خلال الشهر  الكريم، إلقاء 9000 خبزة يوميا في سلّة المهملات. وقد احتلت تونس المرتبة الثالثة في العالم العربي في مؤشرات تبذير الطعام، بمعدل 23.5 كلغ من الطعام المهدور لكل فرد سنوياً، بحسب تقرير نشرته الأمم المتحدة للأغذية والزراعة"فاو".

و على خلفية الوثيقة المسربة حول رفع الدعم عن بعض المواد الأساسية وأولها الخبز ، التي كشفت أن تونس تخطط لرفع الدعم نهائيا عن المواد الغذائية ثم المحروقات والكهرباء والغاز مع موفى 2024، وذلك بهدف إقناع صندوق النقد الدولي بإقراض تونس 4 مليارات دولار أثير جدل كبير خاصة حول ارتفاع سعر الخبز الذي يمثل الخبز الغذاء الأساسي للمواطن في تونس على غرار باقي الدول العربية، كما انه مكون غذائي أساسي في الكثير من أكلاته. ويرمز الخبز كذلك لاستقلال الدولة وعدم اعتمادها على المعونات الخارجية. فإذا كانت الدولة تستطيع توفير الخبز بسعر مناسب لمواطنيها، فذلك يعني اعتمادها على محصولها من القمح أو الدقيق أي نوع آخر من الحبوب بشكل كبير. أما إذا ارتفع سعر الخبز فذلك يعكس اعتماد الدولة على استيراد الحبوب أو اعتمادها على المساعدات الخارجية أو وجود أزمة اقتصادية في هذه الدولة.

و أفاد مقرر لجنة المالية التونسية والتنمية والتخطيط فيصل دربال، في هذا الصدد أن " القرض باش يدخل تونس في حرب أهلية لن نصادق عليه ! لن نصادق على قرض يجعل من ثمن 'الخبزة' 630 مليم !". كما حذّر من حصول احتقان اجتماعي كبير بالبلاد، إذا "تم رفع الدعم عن المواد الأساسية بطريقة مسقطة من طرف الحكومة".

من جانبه  أكّد الخبير الاقتصادي التونسي عز الدين سعيدان أنه اجتماعيا من غير الممكن رفع سعر الخبزة، ولكن اقتصاديا فإن سعر الكلفة يصل إلى 630 مليما على أساس رفع الدعم عن الطاقة والحبوب، وأضاف أن هذا السعر غير قابل للتطبيق نهائيا. 

يقول مثل تونسي أو حديث متداول عند التونسيين" التونسي مسوا في كل شي إلا في خبزتو"، بمعنى أن التونسي يمكن أن يتجاوز عن كل شي إلا في حالة المساس بخبزته أي لقمة عيشه، كذلك هو قادر عن التخلي عن كل أنواع الطعام إلا عن الخبز الذي يعتبر أساس كل موائده والذي لا يمكن أن يتخلى عنه أبدا. فالخبز لدى المواطن التونسي بقدر أهميته في نظامه الغذائي اليومي بقدر رمزيته وارتباطه به تاريخيا ونضاليا و"كرامة".