قد نعترف أن تناولَ ما يجري من أحداثٍ في ليبيا قد يبدو عملياً أشبهَ بعبورِ حقل ألغام، ويستحق الكثير من العنايةِ والتدقيق لا وجهاتَ نظرٍ شخصية مسبقة ولا حتى لأيديولوجيات قد تبدو كمن يكرّرُ اتهامات لا طائلَ منها، بل علينا الإجابةِ عن التساؤل الآتي: لماذا عدم إشراك سيف الإسلام القذافي في لقاء بنغازي؟ يمكن القول إن اللقاء المفاجئ بين المشير، خليفة حفتر، ووزير الداخلية الليبي السابق، فتحي باشاغا، ورئيس المجلس الرئاسي السابق، أحمد معيتيق، والذي اختار المشير حفتر عقده في مدينة بنغازي! كان اللقاء ذات دلالات عدة من ناحية الاستثمار السياسي، وفي تقرير نشره موقع "لوجورنال دي لافريك" وصف لقاء بنغازي بـ "السريالي"، وبحسب التقرير، اجتمعت الشخصيات الثلاث في محاولة لوضع حد لخلافاتهم السابقة، وينقل عن باشاغا، قوله "اتفقنا على مواصلة التنسيق في إطار مهمة وطنية ونأمل في توسيع هذه المبادرة لتشمل كل القوى الفاعلة في ليبيا...! واعتبر باشاغا أن "الهدف من اللقاء هو إشاعة الطمأنينة لهم ولنا، وبدون طمأنينة وبدون أمن وبدون حوار مع بعضنا لن نستطيع بناء دولة". وأضاف: إن "كانوا سبتمبريين (أنصار النظام السابق)، أنتم جزء من المشروع، وإذا كانوا فبراريين (أنصار ثورة 17 فبراير) وأنا منهم، فأنتم جزء من المشروع، وإذا كنتم كرامة (أنصار عملية الكرامة التي أطلقها المشير حفتر) أنتم أيضاً جزء من المشروع، لأن ليبيا لن تقوم إلا بالجميع". وأشار باشاغا إلى أنه من الصعب نسيان الماضي، "ولكن لا يجب أن نقف عند الماضي ولا نتقدم، يجب أن ننطلق إلى الأمام الآن، إلى ليبيا الجديدة، وإذا كانت بيننا خلافات وحقوق، فهذه لن تضيع، ويجب أن نتعامل معها في إطار المصالحة وجبر الضرر والقضاء".

لقد أصاب السيد باشاغا، أنه من الصعب نسيان الماضي...! ربما كثر ممن يتعاطونَ مع المجريات في ليبيا يتجاهلونَ الحديث عن الهدف الأساس لهذا اللقاء ببنغازي وما أدراك ما بنغازي، ففي الساحة الليبية، ينبغي للمرء وفقاً لهذه العقلية أن يكون، وبالإكراه، وبمعزل عن إرادته، وحتى بمعزل عن القضية المطروحة، إما مع الدبيبة ومعسكره الداخلي والخارجي أو مع حفتر وحلفاءه بالداخل والخارج ! في نظرنا المتواضع، لن يكون سهلا المصالحة وجبر الضرر... فبعض العقول فرغت منها الوطنية والإنسانية والاجتماعية، وبعضها صدقت حملة السلاح بأنها واصلة إلى غاياتها، وبعضها مشاعر تمرد ليس إلا، ثم هنالك الإرهابيون أو المطلوبون للعدالة من قتلة ومهربين وغيره...عالم مبعثر من المفاهيم والوقائع، على الدول المتحكمة في الجماعات الإرهابية أن تعيدها إلى رشدها بالإقناع الصعب. الآن ما يحدث في ليبيا في خضم تلاطم أمواج الانتخابات الرئاسية المأسوف على تأجيلها... هو تكفير سياسي بامتياز... فالآخر الذي لا يتوافق مع رأيي سياسياً هو "كافر" وطنياً! وقائمة أوصافه تمتد من خائن... إلى متآمر إلى دموي إلى قائمة طويلة من الأوصاف التي أقلها يحلل دمه وماله وعرضه! إن ما يجري يشبه "المكارثية" على الطريقة الليبية وفيها إطلاق أحكام على الآخر بالظن، والنية، والحكم عليه بالإعدام الوطني! إن ما يجري الآن من مظاهر التكفير السياسي هو إعلان القطيعة ورفض الحوار وعدم قبول رأي آخر وتحويل الاختلاف إلى خلاف والأسوأ من ذلك استدعاء الماضي وخلافاته التي تعود إلى أكثر من ألف وأربعمائة سنة وتحويلها إلى صراع حالي محكوم عليه بطول الأمد! بل الاستعداد للتعاون مع الشيطان في الحرب مع "الكافر" سياسياً!

لست هنا فقط في حالة توصيف لما يحصل خلال أزمة الانتخابات الرئاسية فقط، بل هو في واقع الأمر استمرار لحالة سائدة منذ إسقاط نظام العقيد معمر القذافي، لم تقبل بالشريك ولا بالرأي الآخر(أنصار النظام السابق)، وخلقت مجتمعاً لم يتعرف على فضيلة الاختلاف... ولم يعتد إدارة الخلاف ولم يستطع أن يتعلم دروس قبول التنافس السياسي، فكانت النتيجة أن ليبيا وصلت إلى هذه النقطة التي أصبح فيها التكفير السياسي هو لغة التخاطب بين الليبيين، وليبيا تدفع فاتورة باهظة لعدم ممارسة الحوار السياسي وقبول الآخر المختلف سياسياً، وإذا أردنا أن نستمع إلى الجميع وهم "يخوّن" بعضهم بعضاً ويخلع بعضهم عن بعض حق المواطنة وصفات الوطنية فإننا سنصل إلى مرحلة أخجل من توصيفها. إن ما وصلت إليه ليبيا أن فريقاً متدثرا بالغطاء الديني، يجتهد في "إقناع" الآخر بالقوة وليس بالفكرة، وهذا يعني صراعاً دموياً قابلاً للاستدعاء السياسي في أي وقت من المستقبل.  ومن باب تأكيد المؤكد، فقد حرض مفتي الجماعات الإرهابية المعزول الصادق الغرياني، من وصفهم بـ"أهل فبراير" في ليبيا، على القتال هم وأبنائهم، لتحرير البلاد، ووصف الحكام الحاليين بـ"العملاء لليهود والصهاينة". وقال الغرياني عبر قناته التلفزيونية، الخميس 16/12/2021: "الحرب تفرض علينا فرضاً من عملاء أعداء لله جاءوا لاحتلال بلادنا وقطع كل قيم الإسلام".

لهذا فالمصالحة الوطنية ونسيان الماضي ومعانقة المستقبل، لابد لها من خطوات، أولاها العمل ليل نهار لأجل دفع الفريق الأخواني والتابعين له للتخلي عن خطاب الكراهية ولغة التكفير، والاستعداد الفعلي لقبول الآخرين بآرائهم المختلفة والمتنوعة، وأن يكون الحكم النهائي بين الجميع هو مقدار ما نقنع الآخرين بآرائنا وليس بمقدار ما نفرضها عليهم... لا بد أن يعاد الليبيون المنخرطون فيها إلى جادة الصواب، ولا بد أن يعود كل مسلح إلى بيته ليعيد قراءة ما فعله، وليكتشف الطريق السليم الذي انخرط فيه من جديد... خصوصا وأن ليبيا ستكون بحاجة إليه بعد مدة من أجل أن يساهم بإعادة الإعمار، وبناء ما هدمته يد الشر. لهذا وذاك، فلابد للحكومة إن كان قرارها بيدها، وفي إطار جبر الضرر، أن تنصف المتضررين من قوانين الاجتثاث والعزل والانتقام، تنصفهم مادياً وليس بلاغياً. فالكفاءات الليبية التي خدمت الدولة الليبية لا القذافي، وحافظت على مصالح ليبيا لا مصالح سيف الإسلام، تعرضت لسياسات التنكيل والتعذيب والتهجير وزج بها في غياهب السجون بعدما صودرت حقوقها وممتلكاتها...! 

إن مساحة التفاؤل بتغيُّرات مهمة في المشهد الليبي تزداد اتساعا، مع اتساع المطالبات بنهج المصالحات الوطنية، ولقد أصبح الداني والقاصي اليوم، يعترف أنّ من يريدون ويسعون لإقصاء سيف القذافي من الانتخابات الرئاسية، يشبهون إلى حد ما حال من يحتمي بالعاصفة من العاصفة، أو حال من يضع أولويات يعمل عليها لإسقاط المخطئ وليس إسقاط الخطأ. وفي هذا السياق يقول بريماكوف رئيس الوزراء الروسي الأسبق (إن من لا يملك رصيدا أخلاقيا صحيحا، لا يمكن أن يكون مؤهلًا للحضور السياسي الدائم). والرأي عندي أن الدول الجديدة لا تؤسس إلا على نواة الدول السابقة أي على ما ظل منها محايدا و عادلا و مهنيا. لهذا فمن من يتحدث عن مستقبل ليبيا، والتسوية السياسية والأمن المجتمعي، عليه أن يوقف مسلسل الثأر والعزل السياسي ومفاعيل الإجراءات الانتقامية التي طالت ملايين الليبيين قبل أية خطوة باتجاه الانتخابات الرئاسية، وقطعاً لا يمكن حدوث ذلك إلا عبر حوار واسع ومجتمعي في الداخل الليبي، حوار لا يستثني أو يقصي أي من المكونات الليبية، وأقصد إشراك أنصار النظام الليبي السابق وتيار سيف الإسلام القذافي... ولابد من التأكيد أن المصالحة الوطنية، لا تحتاج إلى وسطاء أمميين ولا قاعات جانبية أو رئيسية، ولا أوراق عمل وأجندات واشتراطات، ولا إلى روزنامة أو لائحة مواعيد، بقدر ما تحتاج إلى تنظيف ذاتي من أي عامل خارجي سواء بالحضور المباشر أم بالوكالة عبر أدوار تخريبية تتخذ في بعض الأحيان صفة أممية وفي بعضها الآخر صفة العثمنة... ومن المجدي في عمل المصالحة الوطنية الليبية، أن تقوم على أُسس علمية يُشرِف على تنفيذها فريق يتمتع أفراده بالاستقلال الفكري والنظرة العادلة والقانونية، بحيثُ يعمل هذا الفريق لوقف المنازعات للتوصّل إلى المصالحة الشاملة .

كاتب صحفي من المغرب.

*المقال يعبّر على وجهة نظر الكاتب وحده