ربما استمع بعضكم لهذه العبارة من قبل .. ربما ذكرت بعضكم برؤيا الولي الصالح "عبدالسلام   الأسمر" و التي يزداد تداولها بين الليبيين هذه الفترة،  و لكن قبل التطرق للكتابة عن هذه الرؤيا  لابد لي من الاعتراف بعدة حقائق.

ربما لا يدرك البعض هذه الحقيقة لكن في ليبيا نحن مدينون إلي الرحالة العرب و الأجانب بالفضل الكبير لحفظهم لتاريخنا من خلال مشاهدات و انطباعات وثقوها في مذكراتهم، فالمشكلة في بلادنا إننا منذ الأزل نعتمد في نقلنا لتاريخنا على الأفواه . أحيانا ننقلها رواية فنحرف الكلم عن موضعه حتى تصبح مجرد " خرافة " كخرافة "بوزيد الهلالي" ترويها الجدة لأحفادها أو نحفظها شعرا شعبيا فنملؤها فخرا و مباهاة مما ينتج عنها التحريف و المبالغة لحقيقة العديد من الوقائع و الأحداث المهمة من تاريخنا.

صحيح، أن عدد من المؤرخين الليبيين من أمثال ابن غلبون و الفقيه حسن و الشماخي نقلوا لنا مشاهد غنية عن الحياة الليبية الاجتماعية و السياسية المختلفة، و لكن بالرغم من ذلك فنظرة الرحالة الأجانب أكثر دقة في تصوير المشاهد اليومية في ليبيا، فهي نظرة سائح شغوف و متعطش لمعرفة كل كبيرة و صغيرة عن تفاصيل ثقافة شعب جديدة و مختلفة عن ثقافة شعبه ، كذلك فالرحالة الأجانب هم أكثر جرأة في تناول القضايا الأكثر حساسية بمجتمعنا دون الحاجة إلى أدنى مراعاة لضوابطه و أعرافه و توازناته القبلية، و هذه كلها خطوط حمراء لا يستطيع المؤرخ الليبي تجاوزها في أغلب الأحيان دون أن يتحسس موضع رقبته. أيضا فالرحالة الأجانب ليس لديهم أدنى مصلحة في الافتراء و الكذب عند كتابة مشاهداتهم ألا في أسوء الظروف لا تتعد قلة توفر شروط الضيافة المناسبة لهم، فالرحالة هم سياح في النهاية كما ذكرت آنفا. و انطباعات و مشاهدات زياراتهم تتأثر بمدى حسن استقبال المستضيفين لهم، و بالرغم من ذلك فأن أي افتراء أو اختلاق من هذا الرحالة أو ذاك ففي استطاعتنا كشفه عن طريق المقارنة و التمحيص بين مشاهدات الحقبة المطلوبة لكل رحالة على حدة.  

 

ربما الملفت للانتباه في مشاهدات اغلب الرحالة عن ليبيا تأكيدها على الشعبية الكبيرة للولي الصالح " عبدالسلام الأسمر " بين الليبيين، كذلك ينقل الرحالة الأجانب  مشاعر الاحترام و التقدير لشخص هذا الولي في الحقب السالفة بعكس شعبيته بين الليبيين في الفترة الحالية، فقد هبطت تلك الشعبية إلي أدنى مستوياتها و هذا مرده إلي ما لحق الشيخ من تشويه بالسمعة و اتهامات تدينه بالجهل و الدجل و هي حملة قادتها مجموعة من تبع التيارات المستوردة ، و الغاية من كل ذلك ليست نشر العقيدة الصحيحة كما يدعي هولاء التبع و ليست الغاية إقامة حكم و شرع الله وحده بل الغاية هي تثبيت حكم السلطان. هكذا هو منهج شيوخ السلطان و هذا هو ديدنهم.  و هو منهج بعيد كل البعد عن منهج الولي الصالح " عبدالسلام الأسمر " الذي لم يعرف عنه في تاريخه تزلفه أو أي اتصالات مشبوهة بالسلاطين ، ثم ان حملة تبع التيارات المستوردة عن جهل و دجل الشيخ عبدالسلام الأسمر ينفيها رسائل الشيخ إلي مريديه من أهل تونس و أهل تمبكتو. ربما من الواجب هنا ان ادعم مقالي برؤية الكاتب المعروف " منصور بوشناف " للولي الصالح

"عبدالسلام الأسمر" على أنه أكبر مثقف في شمال إفريقيا في حقبته.

   ربما تظهر لكم هذه الرسائل تمكن الشيخ و غزارة علمه. أيضا شئ مهم أخر ربما عليكم معرفته و هو توقيت كتابة الأسمر لرسائله المذكورة، فقد كتبت هذه الرسائل في حقبة خروج وصية الملكة " الايزابيلا" ملكة اسبانيا للعلن عند وفاتها و التي تنادي بتحويل شعوب شمال أفريقيا إلي النصرانية. وما احتلال مدن طرابلس و وهران و الجزائر سوى خطوة مبدئية لتنفيذ تلك الوصية، و رسائل الشيخ الأسمر هي تحدي واضح لهذه الوصية. كما قلت لكم فيما يبدو فأن هدف هذه الحملة ليس تصحيح مفهوم العقيدة و تجديد الإسلام،  بل هي ليست  سوى حملة تشكيك في  هويتنا و ثقافتنا الوطنية العريقة.

   فدول عديدة لا تمتلك عراقة تاريخنا و كذلك جماعات متطرفة يدركون تماما حقيقة ان لا سبيل لإيقاع ليبيا تحت دائرة نفوذها سوى بإضعاف ثقة الليبيين في تاريخهم و رموزهم الوطنية.بالرغم من ذلك، فحملة تبع التيارات المستوردة لم تنته إلى هذا الحد فقد بثوا في محاولة للتعريض برموزنا التاريخية إشاعة ان الشيخ "عبدالسلام الأسمر" لم ينجب أولادا. و من المستغرب ان يساء إلي رمز ليبي تاريخي كبير مثل الشيخ "عبدالسلام الأسمر" مثل هكذا إساءة بينما تظهر معالم الحفاوة و التقدير عند الأتراك بعلج لقيط هو "مراد أغا"  اختارته محظية السلطان التركي لمآرب خاصة داخل مخدعها و تركت له ثروة كبيرة ثم قذف البحر بهذا الأغا الوسيم  يوما عندنا!!

و لكن مهلا،، ربما ليس هنالك من شئ مستغرب فقد قامت الحكومة التركية مؤخرا بترميم مسجد "مراد أغا" بتاجوراء و حذرتنا من مغبة تدنسيه. و تكلفة ترميم مسجد "مراد أغا" مهما كانت فهي ليست باهظة لتلك الدرجة  إذا حققت للمواطن التركي الثقة في تاريخ بلاده و  قدمت له حقيقة ان أجداده حتى و لو كانوا علوجا و لقطاء فقد سادوا البحر و البر دهرا، و هذا يحمله مسؤولية ثقيلة للحفظ على  هذه الأمجاد و البطولات بينما مازال تبع التيارات المستوردة عندنا يتبعون سياسة التشكيك في أنسابنا و أصولنا و إيقاظ النعرات و إزكاء الانقسامات وبت الكراهية بين الليبيين.

ربما استصعب عليكم إدراك مغزى هذه الحملة و لكن المؤامرة واضحة و هي حملة كبيرة  لإضعاف ثقة المواطن الليبي بتاريخه و رموزه الوطنية للاستيلاء عليه و تسهيل انقياده و استقطابه داخل طابور كبير من السذج و المغفلين و التبع و ذلك فقط أرضاء للباب العالي.  

مع ذلك فكما قلت لكم فنحن مدينون إلي الرحالة الأجانب بتلك المشاهدات و الانطباعات و اللقاءات الثرية بالحقائق، فالعياشي الرحالة المغربي في رحلته العياشية بعد ما يقارب القرن من وفاة الولي الصالح " عبدالسلام الأسمر "  يذكر مقابلته لعبد الله بن عبد السلام و أبناءه الثلاثة و عبد الله بن عبد السلام هذا هو حفيد الشيخ عبد السلام الأسمر كما يذكر ذلك العياشي و هذا لوحده يدحض أي إشاعة مغرضة يكررها التبع الممتلئين بالعقد النفسية.

 

ربما تستمعون لهذه الحقائق لأول مرة. زيادة على ذلك، أضيفوا  هذه الحقيقة لمعلوماتكم  فلابد لكم من معرفة حقيقة ان كل الشعوب الحية تهتم بالتأريخ لرموزها الوطنية حتى تلك الشخصيات التي حامت حولها الأساطير و الميثولوجيا فحرف الكثير من سيرتها، لا بل ان الميثولوجيا الإغريقية  تحولت إلي إرث عالمي يبتغي كل دراسي التاريخ القديم تمحيص شخصياتها و محاولة البحث عن جذورها الحقيقية. مهما كانت ردودكم أو حتى استهجانكم لهذا الطرح فأن ذلك لن يزحزح ثقة المواطن اليوناني قيد أنملة عن ثقافته، فهو يرى في كل هذا الإرث القديم عراقة تمنحه الثقة بتاريخه و نفسه أيضا، لذلك فلا ذنب للولي الصالح عبد السلام  الأسمر بتلك الأساطير الشعبية التي نسجت عنه بعد وفاته كخرافة  "بندير من السماء" و  "عسيلة في بلاد الروم"  فربما يكون سبب نشأة الأساطير الشعبية حول الشيخ عبدالسلام ناتج عن متلازمة المفاخرة و المبالغة المعروفة عند الليبيين، أو ربما استغل البعض شهرة الشيخ الأسمر لتمرير مثل هكذا خرافة لأجل مصالح خاصة . و شارل فيرو القنصل الفرنسي بطرابلس في أواخر القرن التاسع عشر  شاهد على خرافة مختلقة تؤكد استغلال البعض شهرة الشيخ "عبد السلام الأسمر" لمصالح خاصة دونها سعادة السفير في كتابه  " الحوليات الليبية " و هي حادثة بت إشاعة في مدينة زليطن عن مشاهدة البعض لخروج  الشيخ عبدالسلام الأسمر من قبره و حرقه لكنيس لليهود  كدلالة على رفض الولي الصالح لإقامة اليهود بالمدينة و لكن تحقيقات الجهات التركية المسئولة أثبتت بان الجناة هم تجار من سكان المدينة قاموا بحرق كنيس اليهود و استغلوا شهرة الشيخ "عبدالسلام الأسمر" و جزوا بها في الحادثة. و يعزو السبب من وراء حرق كنيس اليهود كما دلت تلك التحقيقات إلي قوة المنافسة  التجارية بين أولئك التجار و التجار اليهود بالمدينة ، مرة أخرى نجد أنفسنا مدينون للرحالة و القناصل الأجانب بمشاهداتهم. و مرة أخرى تمكننا مشاهداتهم من تمحيص تاريخنا و كتابته على أسس موضوعية.

     

كما قلت في المقدمة فربما طالع أغلبكم  هذه الأيام رؤيا " الولي الصالح " عبد السلام الأسمر "

  ربما يشكك البعض في صحة انتساب هذه الرؤيا للشيخ "عبد السلام الأسمر" و  ان الرؤيا هي مجردة قصة جديدة مفبركة مررتها خلايا نائمة لتمرير أجندة معينة و لكن ربما نظرة بسيطة في مشاهدات الرحالة الأجانب قد تعطي نتائج مختلفة.

فأول إشارة لهذه الرؤيا تظهر في الفقرات الأخيرة من كتاب " الحوليات الليبية " للقنصل الفرنسي بطرابلس "شارل فيرو" خلال أواخر القرن التاسع عشر حيث يشير القنصل إلي تداول الليبيين الحديث عن نبوءة للولي الصالح "عبد السلام الأسمر" تتوقع غزو النصارى ليبيا و هذا أيضا ما تشير إليه رؤيا الشيخ عبدالسلام الأسمر المتداولة بين  الليبيين الان.

    أيضا المراسل الحربي الفرنسي " جورج ريمون " خلال توقفه بوادي " بوغيلان " أثناء تغطيته للحرب الليبية_ الإيطالية سنة 1912مــ. نقل عن الليبيين جزء من رؤيا الشيخ "عبدالسلام الأسمر"   لازالت منشورة ضمن كتاب " من داخل معسكرات الجهاد في ليبيا. و كتب "جورج ريمون" المراسل الفرنسي  عن رؤيا عبدالسلام الأسمر التالي:

"و قد ذكر لي البدو الذين كان يرافقوننا أنه يروى عن هذا الولي الصالح انه قال مرة:

(انني أرى فتيات طرابلس يهرولن حافيات الاقدام للاحتماء في  وادي بو غيلان)"

اكتفي بهذا القدر مما كتب " جورج ريمون" عن الرؤيا.

 ربما يختلف نص الترجمة عن نص الرؤيا المعروفة اليوم و هذا مرده إلي ان مترجم المادة الرائع د.محمد عبدالكريم الوافي لا علم له بالرؤيا فيما يبدو، و من دون أي شك فأن مراسلة" جورج ريمون" و شهادة " شارل فيرو" تؤكد ان الرؤيا قديمة و أنها ليست من تأليف خلايا نائمة تعمل على تأجيج نار الفتنة و الصراع، و بالرغم من قدم هذه الرؤيا فأن ليس للرحالة العرب أو الأجانب فيما طالعت من مشاهدات و انطباعات أي معلومة تؤكد صحة انتساب الرؤيا إلي الولي الصالح

" عبدالسلام الأسمر".

 المدهش في الرؤيا انها تشير إلي سوء أخلاق الليبيين و هذا شئ ملموس على ارض الواقع اليوم من سفك للدماء و انتهاك للحرمات و تمشيط للغنيمة و التغير السريع في الولاءات . أيضا شئ أخر مثير بالنسبة للرؤيا فأنه و بعد مائة عام من تقرير "جورج ريمون" عن الرؤيا مازال يتمسك الليبيون    بها من جديد ، ربما لان ختامة الرؤيا تعطي انطباعا متفائلا عن قصر مدة الفوضى  و عودة الاستقرار و الأمن إلي ليبيا و هو مطلب ملح بالنسبة للمواطن الليبي هذه الأيام.

عودة الاستقرار و الطمأنينة  هو ما تمنحه هذه الرؤيا و هو السبب الرئيسي في تشبث الغالبية بها و مع ذلك فربما من الأجدى ان لا يعول هولاء كثيراً على تلك الرؤيا فكما يقول المثل الشعبي الليبي" عاون سيدك عبدالسلام بحبيل".

تبقى العبارة الواردة بنص الرؤيا و هي " و بعد عامين يجي صاحبكم الأول و يكملكم على اشفار الحديد"   واضحة معالم و لا تحتاج إلي تفسير رغم كثرة الطلاسم بها!!