ترتفع فى أواخر كل عام ومطلع آخر جديد أسهم المنجمين والعرافين والمهتمين بالابراج والتوقعات , وتظهر على الشاشات الصغيرة , وصفحات الجرائد والمجلات وأرفف المكتبات, شخصيات ومتابعات وكتب تطرح تنبؤات بأنفراجات وأحتدامات وتوقعات تبدأ بتقدير الأحتمالات ولا تنتهي عند حد .

يتماهي المنجمون مع وسائل الأعلام فتمتلئ توقعاتهم بأنهيارات أرضية وكوارث طبيعية  وما لايحصى من ضحايا بزلازل وبراكين وتسوناميات وحالات تمرد وفوضى , ورحيل فنان ومرض فنانة  الخ الخ .. وعندما يتصادف توافق أحد التوقعات مع حدث حقيقي ينتقل المنجم الى موقع النجومية ويحصل على بطاقة أستضافة اعلامية واسعة ودعوة مستقبلية للطهور والحديث عن توقعاته الجديدة .

لكن الأحداث وبعيدا عن (( كذب المنجمون ولو صدقوا )) تتجاهل تماما تلك التخرصات وتناوئ محاولاتهم الساذجة لأستنطاق الغيب ( الا في حالة  التسريبات الاستخباراتية لبعض هولاء ) .. فما يشهده العالم من تغييرات مناخية مثلا وتقلب حالات الطقس وشراسة الأعاصير هو بسبب الأحتباس الحراري , وأن أي متتبع للأخبار من مصادرها سيدرك ومهما كانت درجة تحصيله العلمي أن الصورة المناخية  للمستقبل قاتمة , وأن ذلك يحدث وسيحدث بسبب رفض الولايات المتحدة الأمريكية التوقيع على أتفاقية كيوتو وتباطؤ الموافقة الصينية وبعض الدول الصناعية الكبرى الأخرى على تلك الاتفاقية . وأن الأمر لا يحتاج فى واقع الأمر الى قارئ فلكي للأبراج أو منجم وعراف .

الأحداث السياسية لا تحتاج هي الأخرى لمعرفة توقعاتها لأية أوهام من أعمال الكهانة والشعوذة , فمسلسل القتل في ليبيا وسوريا والعراق واليمن وفلسطين مثلا هو بلا أفق , وبوسع أي طالب فى المراحل المتوسطة أن يؤكد ذلك دون الحاجة الى اللجؤ للتنجيم .

ان الدماء العربية ستواصل تدفقها .. وأن ذلك يحدث لأن العرب مجرد بيادق , ولأن أمريكا ( من يحكم أمريكا ) يريدون ذلك ..توقعات الكرة البلورية وفناجين القهوة وورق اللعب وخطوط الكف عن موت ملك ( تجاوز الثمانين !!) وأزمة صحية يتعرض لها رئيس يقترب من التسعين .. لا تثير سوى الضحك .. حيث يمكن لأي ممرض في مصحة صغيرة أن يؤكد أن الأقتراب من عمر الثمانين يرشح صاحبه للرحيل حتى لو كان يضع على راسه تاج الملك .. أويتوشح بوسام الرئيس .. أو حتى أنه يحمل فى خزانته الخاصة الشفرة النووية ..

قراءة ما يحدث في عالم اليوم تحتاج الى الفطنة والمعرفة  والمعلومات وليس للشعوذة , سواء كان ذلك فى السياسة أو الزراعة أو في أنتاج القمح وأسواق المال وأسعار النفط وخطوط الأزياء .. خرائط الأحتدامات المرشحة للأنفجار تبدو واضحة لأي متتبع للنشرات الأخبارية العالمية  ومراكز البحوث والدراسات المحكمة, ولا تحتاج الى طلاسم تزعم تحسس الغموض  وكشف المستور .

يحكى أن ليونيد بريجنيف كان وهو يتولى موقع الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي لمدة18

   عاما يستعين في أدارة بعض شؤون الأمبرطورية الحمراء برجل يقرأ له الغيب !! وكان الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان ( دورتان متتاليتان ) لا يقدم على أتخاذ أى قرار مهم قبل الحصول على موافقة رجل لم يكن يوما أحد أعضاء مجلس الأمن القومي أو أي جهاز حكومي آخر .. المثير أن كلا الرجلين أصيبا قبل رحيلهما بداء الخرف ( الزهايمر ) الذي يفترس منطومة الذاكرة ويدفع صاحبه الى أرتكاب حماقات لا يستبعد العلم أن تكون نتائج بعضها شديدة الفداحة , فيما يكون بعضها الآخر مدعاة للضحك .. والشفقة .

يحفل التاريخ بنماذج من المنجمين في جميع الثقافات والحضارات والأمم , لعل أشهرهم على الأطلاق الكاهن الروسي راسبوتين, الذي أمتدت سطوته من أقبية العربدة الى مخدع القياصرة مرورا بمعتقلات الصقيع في سيبيريا .. فيما يغرق البعض ( حتى الآن ) في محاولات لم تتوقف منذ قرون لقراءة وتفسير رباعيات نظمها ( نوسترا  داموس ) , وهو كاهن مسيحي من أوصول يهودية . أعتنقت عائلته المسيحية هربا من محاكم التفتيش .. وتصادف أن تماثلت بعض تلك الرباعيات مع أحداث لاحقة ( لم يكن مستبعدا عدم أحتمال حدوثها ) .. كالكوراث الطبيعية وأنقلابات القصور وموت ملوكها أو وصول قس من بلاد بعيدة الى أن يصبح كاردينالا يخرج باسمه ذات  عشية الدخان الأبيض من مدخنة الفاتيكان ويصبح البابا للمسيحيين الكاثوليك .

العالم ( بما يزدحم به أحيانا من غموض ) يخلو تماما من المعجزات , اللهم الا ما يصنعه العلم من انجازات باهرة تسجل كل يوم أنتصارا للعقل البشري, وتؤكد على جداراته بادارة أمور الحياة دون تجن على مناطق الوجدان الذي يحمل عبء التوازن وسط شبكة التعقيدات التى تعصف بالعلاقات , سواء بين البشر أو بين مصالح الدول .

ترتيب التفهم المشترك وأنسنة العلاقات بين العقل والوجدان هي بلا ريب من حسن التدبير , وهما دعوة لبناء الطمأنينة وتوافر الرضا في مواجهة تنطع الجهالة التى هي الأب الشرعي للتطرف المسؤول الأول عن جميع الانكسارات التى عانت وتعاني منها البشرية في ملحمة تعميرها للأرض .

التوافق بين العقل والوجدان مسألة يستوجبها الايمان باستمرار الحياة فوق هذا الكوكب , وأي خلل فى معادلة التوافق لن تقود كما تؤكد كل شواهد التاريخ الا لمصائب يمكن معرفة بداياتها , لكن لا أحد بمن في ذلك ( مافيا ) التنجيم يملك القدرة على تحديد شكل تدجاعياتها أو تحديد تاريخ لنهايتها .

ان شبح راسبوتين يفتك بجماجم العجزة من الباحثين عن مصباح علاء الدين الأسطوري , أو طاقية الاخفاء أو بساط الريح .  يحلمون بتعويذة هي في واقع الأمر لا تعكس سوى الخواء والهشاشة .

لا تحتاج فلسطين الى مشعوذ يقول أن الأقتتال بين فتح وحماس هو جريمة يشترك في تدبيرها المؤامرة والجهل .. بالضبط مثلما لا تحتاج ليبيا والعراق وسوريا واليمن الى دجال يقول أن القتل اليومي بين الأخ وأخيه مستمر الى أن ترضى ( البورصة وأسواق النفط وحلم أسرائيل ) أو ينهض العقل من بين ركام الجهالة.

كل العالم يعرف تماما أن الغزاة الصهاينة هم أس المشكلة فى فلسطين وأن الأمريكان هم أس البلاء فى العراق , وأن الغباء والجهل والعمالة هم أصحاب المصلحة في الذي يحدث فى ليبيا وسوريا واليمن .. وأن العرب الذين تم تدجينهم بالهزائم والقمع مستمرون في ابتلاع المهانة وهضمها واعادة انتاجها .. تطرفا و فضائيات ومهازال وعبث .. وغيبوبة هي أقرب للموت .

كاتب وصحفي ليبي . نقيب الصحفيين الليبين - سابقا 

[email protected]