تعيش تونس على وقع مزاد سياسي يومي بين أحزاب لا ترى من الديمقراطية سوى لعبة الكراسي، وخطاب التشفي والفضح والافتئات على الخصوم، وتحصر مصلحة البلاد في كيفية تحقيق مكاسب خاصة ولو استدعى الأمر إقامة تحالفات لا تحتكم إلى المنطق وتسقط في أول صدمة.

في ظل ذلك كله يعيش المواطن حالة من الحيرة، إذ كيف يتصرف أمام قائمة طويلة من المرشحين للرئاسة، هل يجازف وينتخب واحدا ولو كان نكرة، أم يترك لهم مهمة اختيار الرئيس ويتحمل تبعات ذلك كما هو حاصل الآن.

ويقول مواطنون إن الانتخابات البرلمانية ليست مشكلة فقط تختار قائمة وتكتشف لاحقا أنها بلا أفكار ولا تحمل أي حلول، وحتى لو كان البرلمان كله من الثوريين الذين يحترفون الكلام والسباب ويتشابكون بالأيدي، فالتدارك ممكن لأن ثمة مؤسسات أخرى تستطيع أن تعدّل الأمر.

أما رئيس الجمهورية فالخطأ في اختياره يهدد بكارثة، فهو وجه تونس الذي يجلب المستثمرين والسياح أو ينفّرهم، ويشجع بدلا منهم الإرهابيين وخطباء التحريض على القتل، أو فقهاء ختان البنات وشرب بول البعير مثلما جرى خلال ثلاث سنوات من حكم الثورة والثوار.

ومن السهولة بمكان أن تكتشف أن التونسيين الذين فرح كثير منهم لهروب بن علي يتمنون عودته رغم قناعتهم بأنه لن يعود، وحجتهم أن رئيسا قويا وحازما يوفر الأمن أهم من رئيس يلقي المواعظ والحكم صباح مساء ويترك البلاد مرتعا للمجموعات الإرهابية.

فأي مرشح من الأسماء المعروضة للاختيار يمكن أن يملأ عيون الناس ويبدد مخاوفهم؟

نبدأ بالرئيس الحالي المنصف المرزوقي لنقول إن مقاربته للرئاسة كانت خطأ، فرئيس الدولة ليس ثائرا يبارز الناس بالشعر والحكم والبيانات الثورية، وإنما مهمته استثمار الأفكار والخطط والصداقات لبناء استقرار يشجع الاستثمارات المحلية والخارجية على تركيز أنشطتها بالبلاد وتوفير مواطن العمل لمئات الآلاف من الشباب العاطل.

ماذا حقق المرزوقي والمنظومة “الثورية” التي ساندته في هذا الجانب؟

الأرقام تقول إن النتائج تكاد تكون صفرا عدا انتدابات بالآلاف في الوظيفة العمومية زادت في إثقال كاهل دولة مثقلة بالديون والأزمات. لقد كان يتصرف ككاتب أو كمشتغل لدى منظمات حقوق الإنسان، وبحث من ثمة عن الانتصار لنفسه وصورته وترك مصلحة البلاد وراء ظهره.

صحيح أن المئات أو ربما الآلاف صفقوا لخطواته الثورية حين دق الإسفين مع دول لتونس مصالح استراتيجية معها، لكن ماذا ربحت تونس من حكم رئيس يتربع على الكرسي من أكتوبر 2011 إلى نوفمبر 2014؟

لا شيء تقريبا، فلا هي مصنفة في مراتب متقدمة في قضايا حقوق الإنسان، ولا كسبت ود المستثمرين بل إن أكثرهم أغلقوا المصانع والشركات وفروا بجلودهم في ظل فائض النضال النقابي الثوري الذي جاء به “الربيع″.

وهكذا من الصعب أن يجد المرزوقي ولا أي وجه من وجوه منظومة أحزاب الترويكا (النهضة/المؤتمر/التكتل) ما به يقنع الناس أن ينتخبوه لإدارة البلاد بمنطق التجربة والخطأ.

في الشق المقابل، ترشح استطلاعات الرأي رئيس الوزراء السابق الباجي قائد السبسي الأوفر حظا، وهذا مرتبط بشخصيته وخبرته ودعم المنظومة القديمة له، أي منظومة الدولة التي جاءت الثورة لتحاول تفكيكها فكادت تلغيها وتدفع البلاد إلى أحضان الإرهاب.

قد ينجح قائد السبسي في الانتخابات، وهذا وارد، لكن الرجل طاعن في السن وقوته تكمن في مشاركته في حكومات متعاقبة منذ بورقيبة ومرورا ببن علي وصولا إلى ما بعد الثورة، وليس لامتلاكه مقاربة اقتصادية واجتماعية قادرة على إنقاذ البلاد من فوضى كان هو أحد المتسببين بإغراق خزينة الدولة بالانتدابات والزيادات في الأجور دون حساب إمكانيات البلاد.

"البجبوج"، مثلما يناديه أنصاره يجد كتلة جماهيرية من الغاضبين على حكم النهضة وحلفائها، ومن وسط اليسار والنقابيين، وممن انتموا للحزب الحاكم السابق (في نسختيه الدستورية والتجمعية) أو المتعاطفين معه، لكن هذه الكتلة مهددة بالتشظي بعد أن رشحت الحركة الدستورية الوزير السابق في عهد بن علي عبدالرحيم الزواري، وهناك حديث عن ترشح أسماء أخرى مثل مصطفى كمال النابلي (الخبير في صندوق النقد الدولي والمحافظ السابق للبنك المركزي التونسي)، ومنذر الزنايدي وزير الصحة والتجارة والنقل في عهد بن علي ووزير خارجيته كمال مرجان.

وتتحدث تسريبات مختلفة عن محاولات لتقريب وجهات النظر لاختيار مرشح واحد عن هذه الكتلة المؤثرة سياسيا واقتصاديا، لكن المحاولات ظلت متعثرة في ظل تمسك كل طرف بأحقيته في الترشح.

في اعتقادي أن البلاد تحتاج لتخرج من أزمتها الراهنة إلى شخصية بمواصفات محددة، شخصية قادرة صحيّا على إنهاء المدة الرئاسية وفي الوقت نفسه ترمي وراء ظهرها بكل شعارات الثورة حتى تقدر على الحكم تحت قاعدة واحدة هي البحث عن المصلحة.

ربما يكون مصطفي كمال النابلي أحد من تنطبق عليهم مواصفات الرئيس القادم لخبراته الاقتصادية وعلاقاته المتطورة مع المؤسسات المالية الدولية، فضلا عن معرفته الدقيقة بأزمة الاقتصاد التونسي وإمكانيات الحل التي تتواءم معها بعيدا عن الشعارات.

من جهة ثانية، قد يكون منذر الزنايدي هو رجل المرحلة خاصة بعد أن برأه القضاء. وميزة الزنايدي، الوزير السابق في عهد بن علي، أنه لعب دور الوسيط بين الرئيس السابق وبعض معارضيه، ويعرف الرجل بالنزاهة والنجاح في تطوير أداء الوزارات والمؤسسات التي أوكلت إليه مهمة الإشراف عليها، فضلا عن إشعاعه الشعبي خاصة في مناطق الوسط الغربي (محافظة القصرين التي شهدت أبرز فصول الاحتجاجات التي أطاحت ببن علي).

ما يزيد من حظوظ الزنايدي ما يروّج عن وجود محاولات تقودها دول صديقة لتونس لتقديمه كشخصية توافقية في البلاد، خاصة أن لديه صداقات خارجية قوية ستساعد البلاد على تجاوز أزمتها، وأنه تم عرض فكرة ترشيحه للرئاسة على أكثر جهة من بينها حركة “النهضة” التي يميل جمهورها إلى المرزوقي فيما تدعم القيادة شخصيات أكثر عقلانية واتزانا ربما يكون بينها الزنايدي وفق التسريبات القائمة.

وقد ألمح المتحدث باسم حزب التحرير (الإسلامي) إلى أن الزنايدي هو رسميا مرشح التوافق وأن القرار اتخذ في اجتماع جرى بدولة جارة وحضرته شخصيات حزبية تونسية نافذة.

فهل يستنجد التونسيون برجال بن علي لإنقاذ البلاد من فوضى خلفها حكم الثوريين؟

كاتب تونسي 

عن « العرب » اللندنية