الزنازين لا تفتح من الداخل... حقيقة لم تكن غائبة عن "هواري بومدين"، ولكن مع ذلك نزلت دموع هذا الرجل الذي لا يبكي إلا بدموع من فولاذ. كان يسمع بعضا من أوجاع "بن بلة" في تلك الزنزانة التي لا يملك غيره مفاتيحها وكان صديقه "عبدالرحمن بوصوف"، وحده من يجرؤ ليبوح له بعذابات صديقه وسجينه، كان "بومدين" على فراش الموت قدمه اليسرى نحوالقصر واليمنى باتجاه القبر، ولكن قبل أن يتكلم بالإفراج عنه تكلم "بوتفليقة قائلا: الأخطاء الكبيرة من سمة الرجال الكبار.

كان يخيم على تلك الجلسة أجواء تراجيدية صعبة. ربما كان "بوتفليقة" يريد استعادة "أبومدين" لذاته، ولكن يا ترى من يستعيد إلى "عبدالعزيز بوتفليقة" ذاته؟ وهويصوت لنفسه بعد أن وصل صناديق الاقتراع محمولة على كرسي متحرك. لا أدري كيف دخل الرجل انتخابات لوخسرها لكان ذلك مفيدا للديمقراطية، ولكنه كسبها وهذا ليس مفيد لتاريخه. صحيح السلطة أشبه ما تكون بكرسي متحرك، ولكن أن يرحل عنها إنسان بوزن "بوتفليقة ميتا أفضل من أن يجيء إليها وهونصف حي. قابلت الرجل مرة عن قرب خلال حفل غذاء بمناسبة احتفالية الجزائر عاصمة الثقافة العربية وكم مرة عن بعد وفي غير مناسبة، وفي كل المرات كنت أراه أقصر من صوته وأقصر من صداه.. ربما لأنه "بوتفليقة"، وربما لأنها الجزائر التي لا نملك إلا أن نحبها، وذات سفر سألتني مذيعة في تلفزيون الجزائر عن أخر مرة زرت فيها الجزائر قلت لها : بل أخر مرة زارتني فيها الجزائر. الحقيقة أن "بوتفليقة" لم يكسب تاريخه في لعبة الروليت السياسي غير أنه يكاد الآن أن ينفقه تاريخه كله في هذه اللعبة السياسية. لم يولد "بوتفليقة" في الجزائر ولكنه مثل كل المحبين لبلاده فقد ولدت الجزائر في داخله عند مسقط رأسه في مدينة وجدة المغربية. عاش طفولة خارج الجزائر لأنه أحيانا لا يكون للخبز وطن. قبل أن يدخل "بوتفليقة" الجامعة دخل أكاديمية جيش التحرير الوطني. قاتل مع رفيقه وشقيقه في الجزائر والثورة، "هواري بومدين"، وشارك معه في مفاوضات الانسحاب الفرنسي، حتى انتصرت الثورة والاستقلال. كان "بوتفليقة" مجاهدا قبل أن يصل العشرين من عمره، وصار وزيرا في أول حكومة ثورية قبل أن يصل الخمسة وعشرين.. تولى حقيبة السياحة ثم الرياضة، ووجد نفسه في الخارجية، التي دخلها في عهد "بن بلة" ولم يخرج منها في عهد "بومدين". نعم عاش مع "بن بلة" بكل ما في ذلك الفاصل الزمني من تدفق لكل مستحضرات الولع الثوري وبكل ما فيه من جراح لم بعد الثورة. لقد رحل الفرنسيون ورحلوا معهم كل شيء، وظلت الخزائن فارغة، والمشافي فارغة، والمدارس يصفر فيها الريح. حتى الجرارات الزراعية حطموها، ولوكان بوسعهم تكسير السماء لفعلوا ذلك. أنه الحقد الاستعماري لابد أن يرفع فاتورة الحرية. كان "بن بلة" يدخل القلوب من كل الجهات ولكنه لم يخرج من مشكلة أولئك الذين يتحرشون بالجزائر الجديدة والوحدة الجزائرية، كانت الرومنسية الثورية جذابة وساحرة إلا أنها لا تزرع قمحا ولا تحصده.

تحول "بن بلة" من شقته الصغيرة التي تعكس التواضع الثوري إلى شقائه في زنزانة انفرادية، وكان أسوأ ما في القصة أن تجيئه الضرب من أقرب الرجال إليه. . من "هواري بومدين"، فبعض الذبحات لا يوجعك سكينها. بل من يحمل السكين. لقد وضع "بومدين" عواطفه تحت فردة حذائه ومضى ليفتح على "بن بلة" باب شقته ثم يغلق عليه باب الزنزانة. لم يردد الرئيس السجين ما قاله "دايتون" ذات مقصلة: أن الثورة تأكل أولاده ولكن "بن بلة" قال أكثر من ذلك وبصمته القاسي. بدأ "هواري بومدين" يفكر في بيت الدولة دون أن يقبل بالتخلي عن محطة هذه الثورة الملهمة. كانت الجزائر تصدر فائضا من الحبوب لأوروبا يساوي أربعة أخماس الإنتاج الجزائري قبل الاستقلال. لم يفكر "بومدين" في استعادة هذا الرقم، كان يحلق بخياله عاليا مدججا بالأسئلة. لماذا لا تكون الجزائر هي يابان العرب؟ لماذا لا تكون الجزائر مائدة الغذاء العربي؟ كان الإسلام والاشتراكية والإصلاح خليط من أفكار في عقل "بومدين" اليساري خريج الأزهر، كانت له قراءاته المختلفة من "فرانز فانون" إلى "ماركس" إلى "ريمون آرون" وحتى "ديفيد ريكاردو". لقد قام بتأميم الإقطاعيات لصالح الفلاحين فلا يمكن أن يرث الإقطاع المحلي الإقطاع الأجنبي ودخل "بومدين" حقل الصناعات الثقيلة، ربما لأن (صنع في الجزائر) تعطي الثقة في الجزائريين، ومشكلته أنه لم يقف عند حقائق السوق، فالعرب الذين ابتكروا السوق العربية المشتركة قبل الأوروبيين، وضعوا براءة الاختراع في أحد أدراج الجامعة العربية، وأقفلوا عليها بالنسيان. ولم ينس "بومدين" معركة التعريب فلا يريد أن تتكرر قصة "بن بلة" عندما لم يجد إلا أن يبكي بعد أن عجز عن أتمام كلمته باللغة العربية. وكان "بومدين" يرى أن الذين أحرقوا قلوب الجزائريين لا يمكن أن يظلوا متحكمين في محروقات الجزائر لتكون معركة التأميم كجزء مكمل لمعركة التحرير. كان في الأثناء "عبدالعزيز بوتفليقة" قد أصبح صوت الجزائر المسموع كما قال "بومدين" نفسه. وبالفعل أضحت الخارجية الجزائرية نقابة للدول الحالمة التي يسمونها العالم الثالث وكانت الجزائر حاضرة في هذا العالم بالطول والعرض. ولكن للثورات أمراضها، فالثورة التي بدأت مغرم تتحل إلى مغنم وخاصة مع فتح حنفية الامتيازات ليس بداية بوزارة المجاهدين ولا نهاية بحزب جبهة التحرير، وكان مثلث (القبيلة والعقيدة والغنيمة) للمغربي "محمد عابد الجابري" يحكم السلوك الغالب. وصار هناك شعب، وثورة بعد أن كانت ثورة الشعب، وبدأت بطاقات المجاهدين تمنح بالمجان السياسي على الأقرباء، والأصدقاء والجار والجار الجنب وأمام ذلك كان يتكدس الإحباط لدى أجيل ترى أن الجزائر ليس وطن الجميع. وعاد "بومدين" من طرابلس بـ "الولي الرقيبي" الذي رفض في البداية مقابلته ثم قبل بصعوبة أن يقف معه بشكل خاطف في ممر الإقامة وصرخ يومها "الرقيبي" في وجهه : أني أتحداك يا أبن خروبة.

وهكذا تلبس الجزائر "دراعة" البوليزاريوبكل ما فيها من أعباء سياسية واقتصادية وأخلاقية. لقد مات "بومدين" وهوعلى مخدة مملوءة بالأحلام المؤجلة وترك وصية واحدة بأن تظل الجزائر قوية. لم يسمع من "بن بلا" ذات انقلاب تلك العبارة الجحيمية: حتى أنت يا بروتس! ومأساته أنه مات دون أن يعرف لمن يقولها. ألقى "عبدالعزيز بوتفليقة كلمة وداع في إنسان كان له أكثر من صديق وأكثر من رئيس دون أن يدري بأنه يودع نفسه ولوإلى برزخ من الأعوام. وجد "بوتفليقة" نفسه في اشتباك على الخلافة مع "محمد الصالح يحياوي"، ولكن كما يتكرر دائما في التاريخ، ينهمك الأقوياء في شجارهم العنيف ليجد ضعيفا ثالثا الطريق سالكة أمامه نحوالسلطة. لقد جاء "الشاذلي بن جديد" ضابطا مغمورا برتبة عقيد، كان بالكاد أن يعرفه زملائه في المعسكر، ونصف شارعه، كان خجول ويتكلم باقتضاب، وكان أبن المؤسسة العسكرية ليتبع مؤسسة الرئاسة إليها بعد أن كانت الأمور عكس ذلك.

أختار "بوتفليقة" المنفى الخارجي حتى لا يحترق في جحيم النفي الداخلي، وصار أسم "بومدين" على مطار الجزائر الدولي أما خارج المطار فكانت معركة محوأثار "البومدينية". عادت الأرض إلى الملاك الإقطاعيين، وتوقفت المصانع، وباعت الحكومة الوحدات الصناعية على طريقة تخلص السارق من المسروق، وذهب "بن جديد" إلى باريس ليقف أمام ضريح الجندي المجهول، وكأن ذلك الجندي لم يمت على مشارف حي القصبة أوفي أخاديد جبل الأوراس، كانت الرحلة لفرنسا بالنسبة "لابن جديد"مجرد مسافة بين الجزائر وباريس دون عوائق نفسية على غير ما قاله "بومدين" بيننا وبينهم جبال من جماجم وأنهار من دماء. لقد ذهب الرجل الذي قال: نأكل التراب ولا نحني الرقاب وجاء الرجل الذي يحول الجزائر إلى متسولة على أبواب المانحين بعد أن تحول كل شيء من قيادة أصحاب الثورة إلى قيادة أصحاب الثروة. وبدأت الغربة تكسر ظهر "بوتفليقة" أما الجزائر فقد باتت خدمة الدين هي من يكسر ظهرها. ارتفعت نسبة البطالة إلى معدلات عالية وارتفع مؤشر الإحباط والانكسار، ودخل الإسلاميين على الخط للمساهمة في محوأثار "بومدين" الشيوعي الكافر !، وأصبح الإسلاميون كيانا مستعصيا مثل فرانكشتاين ابتكرته دولة لا تقدر أن تضعه في أصابعها.

وكانت الانتخابات التشريعية معركة الإسلاميين الذين أداروها من الخرطوم عبر مطبخ عمليات لم يغب عنه حسن الترابي. ولم تنته المعركة بفوز ملفت وصادم للإسلاميين وتم إلغاء نتائجها ليذهب "الشاذلي بن جديد" لبيته، لتدخل الجزائر في حالة من الفوضى ومن استسهال الدم، كان فاتورتها قرابة ربع مليون جزائري، ورجل اسمه "أبوضياف". وجاء "محمد أبوضياف" من القنيطرة المغربية تاركا أسرته ومعملا للآجور كان مصدر رزقه ليلبي النداء الأخير لباخرة الجزائر. لم يكن يعرف قوانين اللعبة، ولا يعرف مربع عملياتها، ولا حيزها الزمني. الذين جاؤوا به على أقدامه أخذوا على أقدامهم. كانت الجزائر في حاجة إلى الرئيس الضرورة، وكانت مؤسسة الجيش التي فضلت "بن جديد" الضعيف تعود إلى "بوتفليقة" الوحيد. لم يكن "بوتفليقة" من تلك الفصيلة من الثوار الذين لا يتمنون النوم على فراشهم ولكن لعله يتمنى الموت على الكرسي الرئاسي. كانت أمام الرئيس الجديد أكثر الملفات وعورة، حيث يتوجب عليه استعادة الجزائر الحلم. . من الجزائر الألم. أستطاع "بوتفلقة" إيقاف حنفية الدم المنفلتة كما تمكن من ترويض شراسة مؤسسة الجيش لتبقى في الثكنات أكثر من البقاء خارجها، كان على يقين أن الذين أتوا بالرئيس "بوضياف" ليكون رئيسا للجزائر هم من جعلوه فقيدها. لقد استطاع أن يجيش الشارع الجزائري للاسطفاف نحوغاية وطنية، فلأي بلد لابد من هدف مجتمعي قادر في لحظات الأزمة على إنتاج حالة من الالتفاف. لم يكن "بوتفليقة" بحجم "بومدين"، ولكنه لم يكن أقل من رئيس للجزائر حاول أن لا يعيش في جلباب أحد دون أن يخيط جلبابه الخاص. ظل "بوتفليقة" يعيد ترشيح نفسه للرئاسة دون أن يضبط ساعته ليست "الأميغا" التي يفضلها بل تلك الساعة التاريخية حتى لا يستنزف المزيد من ذلك التاريخ. ربما لم يفكر الرجل مرتين قبل أن يرشح نفسه لولاية رابعة.

لعلني أدرك بأن لـ "بوتفليقة" انقلابه المؤجل، واعتقد أن أفضل الانقلابات التي يقودها الإنسان على نفسه. فالجزائر تملك فوائض مالية هائلة قادرة على أحداث تنمية واسعة، والجزائر تملك القابلية لحزمة إصلاحات سياسية كبيرة، وهذا كله يشكل غواية لرجل مثل "بوتفليقة، وفرصة من الصعب أن يتنازل عليها للمجهول. إلا أنه في الوقت الذي يحاول فيه ترميم الأشياء قد يفقد الجمل وما حمل. حينها قد يدرك ولن يتدارك أن الأخطاء هي سمة الرجال الذين يخذلهم الوقت. فالسلطة ضاقت برفيقين مثل "بن بلة" و"بومدين" بينما اتسعت لهما مقبرة "عاليا" في مدينة الجزائر.

المشكلة أن أعمارا دائما ما تكون أصغر من أحلامنا... فمهما نكون أطول من قاماتنا لن نكون أكثر من أعمارنا.

 

كاتب ليبي