بنغازي الحزينة تحترق. طرابلس المخطوفة تصرخ. مصراته الصمود تحولت الى مقبرة تستقبل كل يوم موتى من ابنائها المغرر بهم لا يعرفون لا هم ولا اسرهم لماذا خرجوا من بيوتهم كما لا يعرفون لماذا ماتوا. الزاوية العنقاء منقسمة على نفسها. ككلة التعيسة تئن تحت وطأة القذائف المجنونة.غريان الحالمة ترفع الرايات البيضاء. ورشفانة تم تدميرها و تهجير اَهلها. الزنتان تتلقى التهديد كل يوم بالويل و الثبور و عظائم الأمور. تاورغاء لم تعد أرضا ليبية و تحول سكانها الى لاجئين. بني وليد و ورفلة معزولة او عزلت نفسها. الجبل الأشم محشوربين أمرين احلاهما مر. الجنوب الليبي تائه ولا يعرف الى اين المصير. أمير المؤمنين البغدادي أرسل واليه السوري او العراقي ليكون حاكما لاقليم درنة التابع لدولة الخلافة الاسلامية “داعش” او دولة العراق و الشام. ( فجر ليبيا. انصار الشريعة. الجماعة الليبية المقاتلة. الاخوان المسلمون. القاعدة. بوكو حرام. فجر ليبيا. الكرامة. الثوار. الازلام. مالي.السودان. قطر.الإمارات. مصر.الجزائر. الامم المتحدة. غدامس. طبرق. بان كيمون. الصلح. مجلس النواب. المؤتمر الوطني المنتهية صلاحيته. حكومة عاجزة في البيضاء. حكومة ميتة في طرابلس. قتل. دمار. دماء.)  كلمات متقاطعة عجز جميع الليبيين عن حلها. فرح مصطنع بتوفر البنزين و عدم انقطاع التيار الكهربائي في طرابلس. هل هذا هو كل مايريده الليبيون من فبراير. !؟ الم يكن البنزين متوفرا طوال عهد الطاغية و لم تنقطع الكهرباء عن احد طوال ذلك العهد.!؟ فلماذا اذن قامت الثورة. !؟ ام ان هناك أيد خفية هي التي كانت تفعل ذلك ثم توقفت عنه فجاة بعد ان سيطرت على العاصمة لغرض في نفس يعقوب .!!؟؟

 و تكبر الدوامة و تدور وتدور ثم تدور و تدور حتى لم يعد احد من الليبيين يعلم حقيقة الماساة التي يعيشها الوطن الجريح .

و هكذا ضاعت الثورة و ضاع الثوار.!!

  ارتفع ضغط الدم. و ارتفع معدل السكر في الدم. وارتفع حجم الهم و الغم.  ووصلت بنا خيبة الأمل الى طريق مسدود. فمات الأمل في الثورة. و مات الأمل في الثوار. و لم يعد لدى الليبيين اي أمل يعيشون من اجله لا في الحاضر ولا في المستقبل. و أيقنت ان النهاية أصبحت قاب قوسين او أدنى. فقررت ان أسير على خطى شهرزاد و امتنع عن الكلام المباح وغير المباح بعد ان انتهت كل القصص و انتهى كل الكلام ولم يعد هنالك ما يقال و لم يعد هناك ما يكتب. و بعد ان شاهدت بعد اكثر من ثلاث سنوات بعد ثورة ١٧فبراير المجيدة المتظاهرين الليبيين يرفعون المشانق في ميدان الشهداء بطرابلس وهو نفس الميدان الذي شهد مسيرات مماثلة تهتف بحياة الطاغية و ترفع المشانق و تطالب بتصفية الليبيين بالدم هاتفة ” سير ولا تهتم. صفيهم بالدم. !!.” اي انها كانت تهتف بضمير الغائب لانها لا تعرف من هم اللذين تطالب بقطع رقابهم. !! ولكنها تعلم انهم من الليبيين !!. شعارها الوطني ذلك الشعار الليبي الغريب “دع راسي ..واقطع باقي الرؤوس !” ومعناه بالليبي :” اخطى راسي قص “!! . كما انني شاهدت قبل ذلك ليبيين اخرين يهتفون بحماس غريب : ” نحن شرابين الدم.!! ” اي بالعربي الفصيح” نحن الذين نشرب الدماء بدل الماء .!وكأنهم يفتخرون بذلك أيما فخر !!. ثم رأيت تسجيلات مرعبة تظهر مواطنين ليبيين يسومهم ليبيون اخرون سوء العذاب ويتم ضربهم بالسياط و قضبان الحديد و يتم حرقهم بالنار و ركلهم بالأرجل ثم يطلب منهم ان ينبحوا كالكلاب !!. و يتم توثيق كل ذلك الهول المبين بالصوت والصورة ليتم تداوله بين الناس في صفحات التواصل الاجتماعي !!. ثم رايت جثثا لمواطنين ليبيين محروقة بالنار و مقطعة الأوصال وملقاة على قارعة الطريق كما لو انها بقايا قطط وكلاب و ليست جثامين لمواطنين ليبيين مسلمين يشهدون ان لا اله الا الله و ان محمدا رسول الله !!.

ثم رايت قبل ذلك ألوانا من العجب العجاب. !! رايت حملة اعلى الشهادات العلمية يتحولون الى حملة “مباخر” يسبحون بحمد الطاغية و يصفه احدهم بانه هو” الشعب الليبي “!!. و رايت اخر ينسى كل ما تعلمه في المدارس و الجامعات من القيم و المبادئ و يزين للطاغية سوء عمله و يصبغ عليه صفات العبقرية و النبوغ وهو يعلم ان ذلك الطاغية اقرب الى ان يكتب اسمه في سجل الفجار و المجانين و المخبولين منه الى ان ينسب الى كتاب اصحاب العقول . يومها أدركت انني لم و لن أكون واحدا من هؤلاء. فأخذت حقيبتي و خيمتي و عيالي وخيمت بعيدا عن عرس الدم وكان ذلك من فضل الله علي و على ليبيين اخرين أمثالي.

 ثم اذن مؤذن الثورة في بنغازي ان حي على الفلاح. حي على الحرية. حي على دولة الدستور و القانون. حي على زوال المشانق من الميادين العامة. حي على العدل. حي على الامن و الأمان. حي على كل ما هو جميل ورائع في الوطن الذي اثقلته الهموم و أنهكته المظالم. فقال قائل الليبيين عن ثورة ١٧ فبراير المجيدة انها اليوم الذي ولد فيه المجد و مات فيه القهر في ليبيا الحبيبة.

ثم اتضح بعد ثلاث سنوات او تزيد من ذلك اليوم الأعظم في تاريخ ليبيا الحديث انه لا مجدُ ولد ولا قهر مات.!! بل لا تزال الهتافات هي نفسها ولا تزال أعواد المشانق هي نفسها . ولا يزال الليبيون هم انفسهم. و بدلا من ان يكون في ليبيا طاغية واحد أوحد كما كان الحال قبل فبراير اصبح عدد الطغاة بلا حساب. كان في ليبيا طاغية واحد يسيطر على كل الكتائب المسلحة فاصبح لدينا ١٧٠٠ طاغية لدى كل منهم كتيبته المسلحة وبقيت المهمة واحدة: قتل الليبيين و تعذيبهم و أهانتهم وتدمير ممتلكاتهم و ترويعهم و تشريدهم في أصقاع الارض.!! و كأننا يا فبراير “لا رحنا ولا جينا.” اي ان ثورة ١٧ فبراير أصبحت كذبة ليبية بلقاء بالعربي الفصيح. !!

لقد استشهد من اختاره الله للشهادة من الثوار. وأصيب منهم من أصيب. واختفى منهم من اختفى عن الأنظار. ولقد قيل كل ما يمكن ان يقال. و كتب كل ما يمكن ان يكتب. و صرخ القادرون على الصراخ حتى بحت أصواتهم وهمس الراغبون بالهمس حتى لم يعد يسمعهم احد. وسكت الساكتون من ذوي الاجندات الخاصة عن الحق حتى اصبحوا من اتباع الشيطان الأخرس.  و تمت سرقة الثورة. وشمت الشامتون فيها من اللذين فقدوا امتيازاتهم بفعل الثورة. وأصبح الليبيون طرائق قددا. منهم من يقال لهم انهم ” ثوار “. و منهم من يقال لهم انهم “أزلام “. ومنهم من يقال لهم انهم ” دبل شفرة “.و منهم المعزولون سياسيا. ومنهم من لا يصدق ما ترى عيناه ولا ما تسمع أذناه. و منهم من هو لا في العير ولا في النفير. و منهم من هو دون ذلك كله.  فالثوار هم الذين يقتلون الليبيين و الليبيات و يدمرون مطاراتهم و طائراتهم و خزانات وقودهم و يحرقون بيوتهم ومزارعهم و يخطفونهم و يعذبونهم على الهوية باسم الثورة!!. و الازلام هم الليبيون و الليبيات الذين كانوا ثوارا بالأمس ولكنهم يتعرضون اليوم للقتل و للتهجير على يد رفاق الأمس في صراع غير مقدس من اجل السلطة والثروة والسلاح التي أصبحت فعلا وقولا في يد ” الشعب المسلح “،  تماماً كما قال الطاغية وتماما كما أراد وكما لو انه لايزال يحكمنا من اسفل سافلين.

فأي نوع من البشر نحن. و ماذا نريد لانفسنا. و ماذا نريد لبلادنا. لقداثبتناللعالم اننا شعب شاذ يمارس الشذوذ في كل شيئ. شذوذ في السلوك. شذوذ في الفكر. شذوذ في الحياة. شذوذ في المعاملات. شذوذ في الثورة.  شذوذ في الحكم. شذوذ في السياسة. شذوذ في الاخلاق. شذوذ حتى في أسمائنا.  شذوذ في كل شيئ يخصنا او يتعلق بنا. فنحن شعب غريب الطباع. غريب الأطوار. غريب الأفعال. غريب ردود الأفعال. حتى قال قائل عنا ان كل جديد من الغرائب و العجائب انمايأتي من هذاالمكان المسمى “ليبيا”.!!

ولقد اثبتنا للعالم و عبر تاريخنا الطويل اننا فعلا  كذلك. !!

و ربما يسمع العالم و يشهد من جنوننا القادم ما لاعين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. !!

هل هذه هي ليبيا. !؟ وهل هؤلاءهم الليبيون !؟. هل هذا هو قدرنا الذي لا مفر لنا منه.!؟ هل حقاً ان فترة العهد الملكي الباهر التي شهدت نهضة ليبيا الحديثة في التعليم و التنمية والأمن و الاستقرار كانت هي الفترة الشاذة في التاريخ الليبي الحديث !؟.  وهل صحيح ان ماكان يحدث في عهد الطاغية و ما يحدث اليوم في بلادنا وهو أسوأ من كل ما شاهدناه وشهده العالم في ذلك العهد الاسود من الظلم والمظالم و الجنون هوالذي يعبر عن النموذج الحقيقي للسلوك الليبي الأصيل.!؟

حسبناالله ونعم الوكيل. حسبناالله ونعم الوكيل. حسبنا الله و نعم الوكيل. كيف كنا.. و كيف أصبحنا.

و اخر دعوانا: لك الله يا ليبيا.

كاتب ليبي