تعددت المواقف من مجزرة "شارلي آبدو" وملحقاتها. والتي راح ضحيتها قرابة العشرين شخصا، بين صحافيين، رسامين كاريكاتوريين، وأعوان أمن، ومواطنين عاديين.

تراوحت المواقف بين التنديد الواضح بالعملية وبالإرهاب، وبين التشكيك في الرواية الرسمية، بل وحتى اتهام الحكومة الفرنسية بتدبيرها، أو بالوقوف وراءها. وفيما بين النوعين من المواقف، ربط العديدون بين سياسيات البلدان الغربية الكبرى تجاه البلدان العربية والإسلامية، تلك السياسات القائمة على استغلال الثروات وإثارة الفتن ورعاية الإرهاب وبين امتداد ألسنة لهب هذا الإرهاب إلى عقر دار الغرب ذاته ليكتوي به. ولم يفت هذا الجانب من ردود الفعل أن يعبر عن الأسف لسقوط ضحايا أبرياء، وعن التنديد بالإرهاب . ولم يخل الأمر من مواقف شامتة ومستهزئة بالمنددين بالعملية الإرهابية.

كما صدرت عدة مقالات وتحاليل لصحافيين وحوارات مع باحثين . منها ماحمل الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية تفاقم خطر الإرهاب بماقدمته من دعم إلى تنظيمات وحركات الإسلام السياسي، وماأبرمته من صفقات مع تنظيمات متطرفة، في سوريا وفي العراق. ومنها ما أعاد إلى الأذهان دورحلف شمال الأطلسي وفرنسا في إسقاط النظام الليبي وزرع الفوضى وغرس شوكة الإرهاب في ليبيا. وكنتيجة لكل ذلك، يرى هؤلاء المحللون، أن اللهب طال موقدي النيران أنفسهم، وسيمتد.

في كل هذه المواقف، نصيب مهم من الصحة ومن الحقيقة، على مابينها من اختلاف في الظاهر!

ولكن دعونا نفكك الحادثة ونعيد بناء المواقف تبعا لنقاط الصواب فيها

المؤسسة المستهدفة الأولى من العملية الإرهابية، هي مؤسسة صحفية عريقة في فرنسا، ومتميزة بأسلوبها الساخر، كتابة ورسما. والأشخاص الذين طالهم الإعتداء صحفيون، كتاب ورسامون، وموظفون بالجريدة، إلى جانب آثنين من عناصر الأمن، بمايجعل مجموع ضحايا العملية الإرهابية 12 شخصا.

من قام باقتحام مقر الجريدة في وضح النهار وإطلاق النار على كل من فيها بدم بارد، حسب الرواية الرسمية الفرنسية، هما أخوان اثنان مسلمان، يحملان لقب "كواشي"، من مواليد فرنسا وتجاوزا الثلاثين من عمرهما!

الدخول إلى مقر الجريدة لايتم إلا لمن يملك شفرة المرور. وطبعا الأخوان المفترض أنهما قاما بالمجزرة، لايملكانه. يأتي الحل على يدي صحفية تعمل بالجريدة، كانت تجلب ابنتها من المدرسة وعادت إلى عملها . فكان لها الأخوان "كواشي" بالمرصاد وأجبراها على استعمال كلمة السر حتى يفتح الباب ويتمكنا من الدخول. وذلك ماتم. ثم تكون تلك السيدة هي الناجية من المجزرة في النهاية!

الذين يتهمون الحكومة الفرنسية، أو جهاز الإستخبارات الفرنسي، بتدبير كامل العملية ينطلقون في موقفهم من هذه النقطة. والحال أن الجواب عليها سهل ولايتطلب كثير ذكاء. فمجرد مراقبة مقر الجريدة لفترة زمنية، يمكن أن يحصل من خلالها المجرمون، أو من ينوبهم في المراقبة، على التفاصيل المبتغاة لتحركات الصحفيين وأوقات تواجدهم، ودخولهم وخروجهم، وحتى يوم وساعة آجتماع مجلس تحرير الجريدة.

العنصر الذي يستدعي فعلا مزيد التدقيق، هو ظهور إسمي وصورتي الأخوين "كواشي" من قبل إلقاء القبض عليهما،وحتى قبل العثور على بطاقة هوية أحدهما في السيارة التي كانا يستقلانها في فرارهما. وقد نُسِب ذلك إلى مصدر صحفي مستقل ذي ظلال كثيرة على علاقاته وارتباطاته، فكان هو أول من عرض إسمي الأخوين "كواشي". بل إنه ذهب، إلى حد القول إن إسميهما موجودان على القائمة السوداء للإرهابيين لدى أجهزة الإسخبارات الأمريكية، ومنذ سنوات..فهل فعلا هو المصدر الحقيقي لكشف إسمي الأخوين "كواشي"، أم إن أجهزة الأمن الفرنسية قد غطت على مصدرها الفعلي، وتركت إسم الصحفي المستقل هو الذي يظهر في الصورة؟ هذا ممكن، ولكن كيف يمكن أن يكون الأخوان "كواشي" مطلوبين لأجهزة المخابرات الأمريكية، ويظلان حرين طليقين بين فرنسا وخارجها؟. فهناك من تحدث حتى عن قدومهما إلى تونس للتدرب، والبعض الآخر ذكر اليمن. على كل، في الأخير تمت ملاحقتهما وتضييق الخناق عليهما في المطبعة التي لجآ إليها حيث تم القضاء عليهما.. هل هي الأقدار؟ يرتكبان جريمتهما ضد صحفيين في مقر جريدتهم، ويتم القضاء عليهما في مطبعة..على مسافة تزيد على 80 كيلومترا بين النقطتين.

بالتوازي مع العملية الأم تحدث عمليتان مكملتان، واحدة في الشارع وتذهب ضحيتها سيدة عون أمن، والثانية تمثلت في احتجاز رهائن في سوبر ماركت "كاشير" تنتهي باغتيال أربعة من المحتجزين وبقتل القائم بالإحتجاز، الذي ليس سوى صديق الأخوين "كواشي"، وزوجته هي صديقة زوجة أحد الأخوين. وقد ذكرت بعض الأنباء أنها غادرت فرنسا منذ اسبوع في اتجاه سوريا عن طريق تركيا. في هذه المرحلة من العملية، تظهر خيوط داكنة أخرى تستدعي مزيد التوضيح، وتبعث على تساؤلات مختلفة، قد تجيب عنها الأيام القادمة.

فهل يعقل أن تكون للحكومة الفرنسية يد فيما جرى؟ بالمنطق، يستحيل. والسبب أن فرنسا لوكان لديها أي دور في العملية، ماكانت لتؤكد على لسان رئيسها في أول تصريح له يوم الحادثة،أن من قاموا بالعملية الإرهابية لايمثلون الإسلام، والإسلام منهم براء. فكان يمكن أن يندد بالإرهاب ويعوِّم كلامه بكيفية يحمل معها معاني متعددة. ومن ثم تبدا حملة ملاحقة ومعاقبة المسلمين وطرد الكثير منهم، ولااحد يلوم! ولكنه حرص على التوضيح بأن الدين الإسلامي ليس دين إرهاب.

فهل تكون المخابرات الأمريكية أو الإسرائيلية، وراء ماحدث؟ ولأي هدف؟ يصعب ذلك الآن وفرنسا منخرطة بالكامل في الحرب الجماعية على إرهاب داعش. فليس لأمريكا من فائدة في خلخلة النظام الأمني والإجتماعي الفرنسي في خظم هذا التحالف!

إذن داعش أو القاعدة هو الطرف الذي خطط وأدار العملية برمتها وبأجزائها. حتى هذه تبقى رهن التثبت كذلك. لأن كلا من داعش ومن قاعدة اليمن قد بادر بتبني العملية، مايضفي ظلالا من الشك على صحة قيامهما بها.

في انتظار ظهور بقية العناصر المخفية في هذه المجزرة البشعة، الأكيد الباقي هو وجوب التنديد بها من دون تحفظ ولاخجل! فإذا كان الرسول ذاته، صلوات الله عليه وسلامه، قد عفا على أشد الناس نكالة به واستهزاء، في بني قريش، ولم ينتقم منهم، أفيكون هؤلاء الذين يلوحون بالإنتقام لرسول الله، ويرددون بأن الدين الإسلامي يدعو إلى قتل من يسب الرسول، هم أشد تقى من الرسول ذاته؟ لقد كان الرسول بعفوه وفيا لرسالته التي أوجزها في القول "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". أما القتلة فقد برهنوا أن لاصلة لهم بالأخلاق وبالإنسانية ! 

أن تصل نار الإرهاب إلى البلدان التي رعته واحتضنته، هذا فعلا الأمر الذي هوبصدد التأكد يوما بعد آخر، من أنفاق لندن إلى محطة قطارات مدريد،  فاحتجاز رهائن بمقهى بأستراليا، على سبيل الذكر فقط..ولافرار للدول العظمى من مواجهة الحقيقة بأن المارد بصدد الخروج من القمقم، ولافرق لديه وأمام أطماعه، بين أسياد وعبيد. فلعل التوقف عن دعم الإسلام السياسي أولى الخطوات المهمة التي يجب ان تتبعها خطوات ذات بال تدعم حركة الشعوب التواقة إلى الحرية الحقيقية غير المغشوشة، وإلى التنمية الشاملة والعادلة وإلى تعليم ينير العقول ويضع ركبها على درب الإرتقاء في مدارج المعرفة والتقدم. ولعل البدء بفسخ ديون هذه الشعوب لهو مؤشر صدق النية في طي صفحة الماضي، وتقديم العون العلمي والتكنولوجي لهذه البلدان حتى تحقق نماءها وتقيم معها تعاونا نديا حقيقيا لمصلحة كافة الشعوب ومن أجل تحاببها وتقاربها!

 

كاتب تونسي