عندما تمر الدول بفترات صعبة فى تاريخها و تتعرض لإخطار جسيمة مثل حالات الحرب, و الأزمات الإقتصادية, أو تعيش توترات مجتمعية خطيرة, تهدد الأمن العام و الإستقرار فإن السياسين على اختلاف توجهاتهم  و مذاهبهم يتركون خلافاتهم السياسية جانبا و يقفون صفا واحدا فى مواجهة هذه المخاطر . عادة ما يلجؤون فى مثل هذه الحالات الى تشكيل حكومة وحدة وطنية قوية, تحظى بالتأييد الواسع و يتعاون الجميع معها من اجل بسط الأمن و تحقيق الإستقرار, فالقضية حينئد قضية و طن و الذى هو فوق كل اعتبار أو هكذا يجب أن يكون .

 فى الشقيقة تونس تحصلت النهضة على 41% من الأصوات فى انتخابات المجلس التأسيسي  سنة 2011م و تلاها كل من حزب المؤتمر من اجل الجمهورية بنسبة 13.8 % , ثم حزب التكتل من اجل العمل و الحريات بنسبة 9.6% . شكلت هذه الأحزاب بما يعرف بالترويكا الحاكمة فى تونس, حيث توزعت رئاسة الجمهورية, و رئاسة الوزراء, و رئاسة المجلس التأسيسي بينهم  . شهدت فترة حكم الترويكا الكثير من المشاكل حيث عجزت حكومة الترويكا عن تلبية المطالب الشعبية, و اصيب الشارع التونسى بخيبة امل كبيرة نتيجة اتهامات بانتشار الفساد, و تدهور الأوضاع الأمنية, و ازدياد البطالة, و تفشى مظاهر العنف . كما أدى اغتيال افراد من الجيش فى جبل الشعانبى و اغتيال المعارض شكرى بلعيد و  النائب فى المجلس التأسيسي محمد البراهمى  الى تفاقم الأزمة و اتساع رقعة المعارضة للترويكا الحاكمة . ارتفعت المطالبات الشعبية بحل المجلس التأسيسى, الا أن هذا المطلب لم تؤيده بعض القوى السياسية و منها الإتحاد التونسى للشغل, لأن ذلك  يترك البلاد فى فراغ مؤسساتى لا تعرف عواقبه . فى هذا الجو السياسي الخانق تقدمت مجموعة من المنظمات بمبادرة الحوار الوطنى التونسى برعاية كل من الإتحاد التونسى للشغل, و الإتحاد التونسى للصناعة و التجارة و الصناعات التقليدية, و الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان, و الهيئة الوطنية للمحامين بتونس, و هو ما يعرف بمبادرة الأربعة, و قد حظيت هذه المبادرة بتأييد رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة و رئيس المجلس الوطنى التأسيسي . عقدت جلسات الحوار بين كافة الأطراف السياسية التى بالسلطة و التى خارجها, و تضمنت المبادرة و التى اتفقت عليها كافة الأطراف السياسية الفاعلة فى تونس و ضع خارطة طريق للعملية السياسية, و تشكيل حكومة كفاءات جميعها من المستقلين, و لم تشارك فيها أى من الأحزاب و تنازلت النهضة عن رئاستها للحكومة.

 رغم اجراء الإنتخابات الرئاسية و النيابية فيما بعد و فوز حزب نداء تونس بأغلبية كبيرة فى سنة 2015 م  الا أن تونس  ما زالت تعتمد نهج التوافق السياسي و الشراكة فى الحكم من اجل ايجاد ارضية موحدة و قوية  لمواجهة المشاكل المستعصية التى تواجهها البلاد و المتمثلة اساسا فى الإرهاب و تفاقم المشاكل الإقتصادية.

نحن فى ليبيا مشاكلنا اضعاف ما تواجهه تونس, حيث نعيش فى دولة هشة  انهارت فيها كافة مؤسسات الدولة العسكرية و الأمنية و القضائية, و فقدت الدولة سلطتها على غالبية مناطق ليبيا و يمكننا بايجاز تحديد المخاطر التى نواجهها فيما يلى :-

مخاطر التقسيم :

يعد هذا الأمر احد االأخطار  التى اشار اليها كثير من المسئولين السياسين الليبين و اشار اليها أيضا  بعض قادة العالم و كثير من التقارير الصحفية  . و يجد هذا التخوف   مرتكزاته على ارض الواقع  حيث  ازدواجية  السلطة بكل مؤسساتها مجلسى نواب و حكومتين و جيشين اضافة الى ما يجرى الآن من عمل لإنشاء مؤسسات موازية  مثل المصرف المركزى و مؤسسة النفط و ديوان المحاسبة و هيئة الإستتمار و غيرها. ويلاحظ بكل أسف أن بعض وسائل الإعلام  تساهم  فى تعزيز النزعات الجهوية و بت الفرقة بين مختلف المناطق فى ليبيا .

الوضع الإنسانى:

 يعتبر الوضع الإنسانى فى ليبيا كارثى حيث فقد عشرات الآلاف من المواطنين مساكنهم و اضطروا لتركها و النزوح الى مناطق اخرى و ذلك نتيجة الصراع المسلح فى غرب البلاد و شرقها و الذى اندلع فى شهر يونيو 2014م و يعيش هؤلاء النازحون أوضاعا معيشية و صحية سيئة للغاية . و تفيد المعلومات المتوفرة لدى المفوضية السامية لشئون اللاجئين بأن عدد النازحين داخل البلاد قد تضاعف الى اكثر من 434 الف نازح منذ سبتمبر 2014 م. و الرقم يمكن أن يكون اعلى و ذلك لأن المفوضية لديها وصول محدود و تقوم بادارة اعمالها عن بعد  (1) . و اشارت المفوضية الى أن النازحين يعيشون اوضاعا صعبة حيث يقيمون فى مبان مؤجرة و مدارس و مبانى خالية كما أن بعض النازحين  فى بلدة غات تعيش فى خزانات المياه الفارغة .

و تعانى الكثير من الأسر الليبية  مشاكل عدة فى انقطاع ابنائها عن الدراسة حيث  توقفت الدراسة ببعض الجامعات لفترات طويلة و تعرضت جامعة بنغازى للتدميرالكامل و التخريب بسبب القتال الدائر فى مدينة بنغازى . و يعانى المواطنون بشكل عام نقصا فى المواد التموينية و غلاء فى الأسعار و نقصا فى البنزين و الغاز و الإنقطاعات المستمرة للكهرباء و لساعات طويلة فى اليوم . بل للأسف الشديد اصبحت ليبيا تتلقى المساعدات الغدائية للنازحين حيث يقوم برنامج الأغدية العالمى بتقديم المساعدات الغدائية للنازحين فى شرق البلاد و غربها (2) .

هذا كما تجدر الإشارة للمهجرين الليبين الذين يعيشون فى الدول المجاورة و خاصة فى مصر و تونس و الجزائر و المغرب و النيجر و الذين يقدر عددهم بمئات الألاف و  ما يعانونه من ظروف معيشية صعبة للغاية و ينتظرون يوما تستقر فيه الأوضاع فى بلادهم ليعودوا اليها .

 

الأوضاع الصحية :

 يشير تقريرالمنظمة الدولية للصحة بأن المنظومة الصحية فى ليبيا قد انهارت, و أن المعارك التى اندلعت فى يونيو 2014 قد أدت الى نهب و تدمير المخازن المركزية للأدوية فى طرابلس فى يوليو 2014, و بنغازى فى اغسطس من نفس العام ,  الأمر الذى أدى الى نقص خطير فى الأدوية و المعدات الطبية و المستلزمات الطبية كما أن منظومة الإسعاف المستعجل بما فى ذلك سيارات الإسعاف قد تعرضت للسرقة و النهب و توقفت عن العمل كثير من المستشفيات و مراكز غسيل الكلى و غيرها من المرافق الصحية (3) . و يشير التقرير ايضا الى نقص كبير فى الأطقم الطبية بسبب سفر الممرضات و الفنيين الفلبينين و الذين يمثلون غالبية الأطقم المساعدة بالمستشفيات الليبية . و خلص التقرير الى أن الوضع الصحى فى ليبيا كارثى  و يتطلب اجراءات عاجلة لتوفير الحد الأدنى من الخدمات الصحية اللازمة .

الحالة الأمنية :

 يشهد الوضع الأمنى تدهورا كبيرا حيث زادت معدلات الجريمة بشكل غير مسبوق و اصبحت عمليات الإختطاف للأبتزاز المالى و عمليات السرقة المسلحة منتشرة فى كل انحاء البلاد, و لم يعد المواطنون يأمنون لا على حياتهم و لا على ممتلكاتهم . و تشهد مدينة سبها على وجه الخصوص خلال الفترة الأخيرة  رقما قياسيا فى عدد جرائم السرقة, و الإختطاف, و القتل حيث بلغ عدد القتلى خلال الربع الأول من سنة 2015 الى حوالى 70 شخصا فى حين بلغ عدد المختطفين خلال نفس الفترة حوالى 75 شخصا من مختلف الجنسيات . و قد زادت وثيرة العنف خلال شهر  رمضان   حيث وصل عدد القتلى نتيجة الجريمة الى حوالى 30 قتيلا خلال الأسابيع الثلات الأخيرة من شهر رمضان . الوضع ليس أحسن حالا فى باقى المناطق, و قد اخدنا سبها كمثال على تدهور الوضع الأمنى و تفاقمه مؤخرا,  الا أن  السطو المسلح و عمليات الإختطاف و القتل  اصبحت جزءا من الواقع المعاش يوميا بمختلف المدن الليبية  نتيجة لغياب الدولة و تفكك اجهزتها الأمنية .

الوضع الإقتصادى :

دخلت ليبيا الى مرحلة اقتصادية و مالية صعبة للغاية نتيجة استمرار القتال, و عدم وجود الإستقرار, و توقف الكثير من الأعمال نتيجة الأوضاع الأمنية الصعبة . و يشير تقرير البنك الدولى (4) الى أن غياب الإستقرار السياسي و استمرار الإقتتال قد أدى الى تفاقم الأوضاع المالية و الإقتصادية . لقد أدى تدهور الأوضاع الأمنية الى انخفاض انتاج النفط الى 500 الف برميل يوميا خلال سنة 2014 حيث كان فى سنة 2013 حولى مليون برميل يوميا, الأمر الذى نتج عنه انخفاض كبير فى الناتج المحلى حيث اشار التقرير الى ان الناتج المحلى الإجمالى كان فى سنة 2012 م حوالى 82 بليون دولار و قد انخفض الى 41.2 بليون دولار فى سنة 2014 مما ادى الى انخفاض معدل دخل الفرد السنوى من 12800 دولار الى 6600 دولار فى السنة لسنة 2014. و اشار التقرير ايضا الى أن ظروف الحرب و عدم الإستقرار قد ادت الى تقلص النشاط الخاص بشكل كبير, مما ادى الى نقص اكثر من 50%من المداخيل الغير نفطية. كما اشار التقرير الى أن التوقعات بالنسبة لسنة 2015 تعتمد بشكل كبير على ما يصل اليه الحوار السياسي ! و حتى فى  حالة الوصول الى اتفاق سياسي و تشكيل حكومة وحدة وطنية فإن انتاج النفط سيظل فى مستوى منخفض الى حين اصلاح و صيانة المنشآت النفطية . الآ أن التقرير يشير الى أنه على المدى المتوسط فإن الإستقرار السياسيى سيؤدى الى تحسن الإقتصاد و تعافيه و تحسن الوضع المالى للدولة و زيادة النمو الإقتصادى بمعدل 5.5% و ستستطيع الدولة تحقيق التوازن فى احتياجات النقد الأجنبى. 

خطر الإرهاب .. داعش !:

يمثل الإرهاب خطرا حقيقيا على ليبيا و مستقبلها حيث, ادت الصراعات بين الأطراف السياسية المختلفة الى اعطاء فرصة كبيرة للأرهاب كى ينموا و يعزز مواقعه فى مختلف المناطق . لقد وصلنا الآن الى حالة تمكنت فيها التنظيمات الإرهابية و على رأسها داعش من فرض سيطرتها الكاملة على بعض المدن و منها درنة و سرت كما يحاول التنظيم فرض وجوده فى بنغازى و ايجاد مواقع له فى طرابلس .و تشير التقارير الى تمدده نحو الجنوب و محاولته السيطرة على الجفرة و توجهه للسيطرة على المناطق النفطية كما اصبح يهدد مصراته و يقوم بعمليات ارهابية داخلها من اجل التمهيد للسيطرة عليها و فتح الطريق امامه لطرابلس . و تشير بعض التقارير الى قدوم اكثر من 5000 جهادى متطوع الى ليبيا من مختلف دول العالم و التحاقهم بداعش فى ليبيا . و يواجه الجيش الليبى التابع للحكومة المؤقتة صعوبات كبيرة فى توفير الأسلحة و التجهيزات الخاصة نتيجة الحظر الدولى على بيع الأسلحة لليبيا رغم مطالبة الحكومة للمجتمع الدولى بدعم الجيش لمكافحة الإرهاب . و تبدى كل من امريكا و بريطانيا و بعض الدول الأوربية اعتراضها لرفع الحظر على مبيعات السلاح لليبيا حتى يتم الوصول الى اتفاق سياسي و تشكيل حكومة وحدة وطنية .  هذا و قد صرح السيد فيليب هاموند وزير خارجية بريطانيا بأنه من غير الممكن رفع الحظر عن بيع السلاح لعدم وجود جيش موحد فى ليبيا يمكن ان يقدم له المجتمع الدولى الدعم و المساندة(5).

 

هذ وضعنا الحالى باختصارشديد و هو وضع صعب للغاية يتطلب منا التفكير بشكل جدى فى البحت عن حلول و تغليب المصلحة الوطنية من اجل انقاذ ليبيا قبل ان يكون الوقت متأخرا جدا . لا مبرر مطلقا ان تستمر الأمور على ما هى عليه من تخريب لكل ما هو على الأرض من عمران و من قتل و تشريد لالاف الليبين من اجل ان يحكم هذا أو ذاك . الحوار و نتائجه تتناول مرحلة مؤقتة لمدة سنة أو يزيد قليلا من أجل تهيئة الظروف و المناخ الملائم لكى  يتمكن الليبيون  من ابداء رأيهم و يختارون من يريدون ليحكمهم بارادتهم الحرة ووفق آليات ديمقراطية تؤكد على حرية الرأى و التعبير و التداول السلمى للسلطة.

ان ما وصل اليه الحوار الوطنى فى الصخيرات برعاية الأمم المتحدة و توقيع مختلف الأطراف على مشروع الإتفاق السياسي لحل الأزمة الليبية يعد فرصة تاريخية لنا للخروج من المأزق الذى تعيشه بلادنا و البدء فى اعادة بنائها كى تكون وطنا آمنا لكل الليبين دون استتناء .

----------------------------

مركز انباء الأمم المتحدة 31/6/2015

مركز انباء الأمم المتحدة 4/6/2015

World Health Organization, Libya, Situation Report NO.1, 14 August 2014.

The World Bank, Libya, Overview, Mar 31, 2015.

Newsweek, 5000 Foreign Fighters Flock to Libya as ISIS calls for Jihadists, 3/3/2015

كاتب ليبي 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة