قبل أعوام، في بلد عربي ما، في مدينة ما، في شارع ما، دخلت مكتبة أطلقت على نفسها اسم “المعرفة”، لأكتشف ما تزدان به رفوفها من كتب تزخر بكل ما هو “نفيس” في مجال التكفير الذي كان بضاعة رائجة ومدعومة طيلة عقود لضرب ما يقال أنه فكر شيوعي، أو قومي، أو ليبيرالي، أو حداثي أو ديمقراطي والعياذ بالله.

ومن بين ما رأيت، كان هناك رفّ عليه مغلفات وردية كتب عليها “هدية إلى حبيبتي المسلمة”، ومن باب حب الاطلاع اشتريت مغلّفا، وعدت به إلى البيت، وفتحته، فوجدت به كتيبا عن الحياة الزوجية السليمة من خلال النظرة الدينية القويمة، واسطوانة عليها مجموعة من تلك الأناشيد التي لا تعترف من الآلات الموسيقية إلاّ بالإيقاع، ولما استمعت إليها وجدتها تنطلق بالحديث عن الزوجة وتنتهي بالتغزل بالحوريات والشهادة.

المهم في الأمر، أن ذلك المنشد نفسه، بذبذبات صوته وطريقة إنشاده، بات يظهر لي في كل مكان، فأناشيده الدينية تبث في الإذاعات الحكومية وعلى بعض الفضائيات التي تكتفي بصور الأزهار والأشجار والطيور والأسماك الملونة مع الغناء الديني الحلال، أو ترتيل القرآن وعرض الرقى الشرعية.

وكذلك سمعته مصاحبا لفيديوهات العمليات الانتحارية للجماعات الإرهابية، ولأفلام داعش، وجبهة النصرة، وأنصار الشريعة، وأجناد بيت المقدس، والقاعدة، والإخوان وحماس وغيرها من الجماعات.

وهذا المنشد الذي قد يتعدد ولكن في إطار صوت واحد، ومنهج واحد، ليس أكثر من نموذج لفئات من الناس تعيش بيننا وتتلوّن حسب الظروف، أحيانا تبدو مع داعش، وأحيانا مع منظمة المؤتمر الإسلامي، تتغدّى مع الأمراء والشيوخ والمسؤولين الرسميين، وتتعشى في الكهوف مع الجماعات الإرهابية.

عندما صعد مرسي إلى الحكم قالت أنه المنتصر بالله، وعندما أطاح به الشعب المصري اختارت الصمت على الجبهة المصرية، ثم ظهرت على جبهة العراق والشام تدعم دولة الخلافة، وعندما قرر العالم مواجهة الدولة وخليفتها البغدادي، تنصّلت من الولاء، وعادت لتصمت في انتظار مشروع جديد في شرق ليبيا أو في جنوب اليمن أو في أي مكان آخر.

وهذه الفئات كانت في الثمانينات من القرن الماضي تجاهد في أفغانستان وترابط في باكستان، ثم اتجهت إلى البوسنة وكوسوفو، فإلى العراق كان مسراها، ومع عصابات الإرهاب في الجزائر كان وجدانها، ثم كان لها أمل في القاعدة وقراصنة الصومال، وكانت تخطط مع الإخوان لزعزعة الدولة وتخريب المجتمعات.

فحاربت في ليبيا وسوريا، وتجندت لدعم حكم المرشد في مصر، ولدعم الغنوشي ونهضته في تونس، وعندما ظهر داعش حمدت الله، ودعت له بالنصر والسداد، وهي في كل ذلك لا تكف عن إبداء الولاء لولاة الأمور في بلدانها، لذلك تراها وتسمعها في وسائل الإعلام الحكومية لبعض الدول، تتحدث وكأنها فعلا مع السلام والمحبة والتسامح والوسطية والاعتدال.

المنشد كذلك، ينشد للزواج السعيد، وللقتال والغارات والذبح وصليل السيوف، وهو دائما يحافظ على موقعه ومصالحه، يدعم الإرهاب ويحتمي بالسلطات الشرعية.

وكلما انتصر طرف قال أنه راهن عليه منذ البداية، ولن يستطيع العرب التغلب على المد الإرهابي، طالما أنهم لم يوقفوا هذه الازدواجية المقيتة التي يمارسها محترفو الارتزاق بالإسلام.