بإعلان شهادة وفاة معمر القذافي القائد العام الأعلى -للجنة الدفاع المؤقتة- وقبر نظامه الجماهيري (تفتفته كـــيف الزرع) بدأت أزمة ليبيا حصريا (في الممارسة السياسية والواقع العياني) مباشرا خاصة بعد مقاطعة النظام الجماهيري نهائيا بتفريغ جسم الدولة من كل  مؤسساتها التقليدية صبيحة ما يسمي تجاوزا  بإعلان الاستقلال (إعلان اللاّدولة اللّاوطن) بتاريخ (24/12/1951). كما بدأت من جهة ثانية إشكاليه ليبيا مع نفسها، مع مخاضها الجديد لتوليد دولة ليبيا، وهو المخاض الأسوأ والأعسر بما لا يقارن بمخاض عهد الاستقلال المجيد عام  "الآباء المحترمين" 24/12/1952، مع إشكالية تاريخها الغابر الحاضر، مع إشكالية هويتها وتوجّهها في المستقبل، مع  إشكالية بناء الدولة وجدلها الداخلي والخارجي وصراعاتها الجهوية بعد فبراير، مع حساباتها القديمة والمستحدثة بكلمة مع: (منظومة وبنية أربعين عاما ونيفا من طبائع الاستبداد وملحقاته) وأخيرا مع إشكالية دستورها الجامع المانع. ومثلما قبرت مؤسسات الدولة في النظام الملكي بانقلاب عسكري، كذلك قبرت مؤسسات الدولة في النظام الجماهيري وهذه المرة بانتفاضة شعبية قاطعت المؤسسة ولم تقاطع البنية الطاغوية في آثارها السلبية: (اللاّدولة واللاّوطن) وهو ما يزال يمور بعد فبراير صراعا تصاعديا مدمرا على امتلاك السلطة المركزية  بين (الإشكالية والأزمة).

بيد أن الفارق المصطلحي بين مفهومي الإشكالية والأزمة، يوجب علينا الإشارة المنهجية إلى أن تحليلنا وتفكيكنا لا ينطلق من نقطة زمنية معينة حيث يكون تأريخ للحدث نفسه  أو مجرد  توثيق له فقط، بل يغوص في الحفر إلي ما وراء الحدث، في الأسباب التي أدت  إليه، أسباب كامنة متوارية متراكمة  تحت السطح غائرة تستلزم البحث* -الحفر- في تاريخانية الحدث لا في تدوين خبره.. بمعني مكاشفة الأسباب والمقدمات التي أدت للأزمة، وليس مجرد توثيق وتأريخ تدويني بحسب التقويم السنوي.

ولتوضيح ذلك فإن سقوط النظام الجماهيري فعليا و(تاريخانيا) كان قد تمّ  قبل هذا التأريخ (20/10/2011) بكثير، كان قبل إعلان شهادة وفاة رأس النظام حين فقد النظام نفسه مبكرا، كل مبررات وجوده الشرعي في أكثر من مناسبة، وقبل هذا التأريخ بكثير؛ كان  قبل شرارة (بوعزيزي) وقبل عدواها الأفقية بما يسمي بالربيع العربي، فقد النظام الجماهيري شرعيته بتدمير أركان الدولة ومقاطعتها تاريخيا، خـرّب التعليم بعد عسكرته وأساء في تربية المواطن إن لن يكن صادر المواطنية، وأًهمل الصحة بل وجمّد التنمية في ثلاجة المحفوظات، وأدخل ليبيا في معارك خشبية وهمية، وفكك كل من مؤسستي الجيش والشرطة، ومقدرات الإدارة المحلية، وأهمل التربية الوطنية وقطاع الشباب، وأهمل المجتمع المدني، وعزز العصبة القبلية  والعقلية القبلية علي حساب الدولة والمجتمع المدني، واختزل البلد ومقدراته للفرد الناطق الوحيد، والوطن بتاريخه الماضي والحاضر والمستقبل لشخص بعينه وعائلته، وفصّل جميعها علي مقاس واجتهاده الفردي الخاص، فكان وحده هو القائد الأوحد، والمعلم الأوحد، والمفكر الأوحد، والمهندس الأوحد..الخ، هو هذه الصفات الحسني جميعها وأكثر، ومن هنا  بدأت الأزمة، وتصاعدت على مراحل حتى  ذروتها وسدرة منتهاها في صورة الحدث الرهيب المؤرخ بالتقويم السنوي الشمسي 20/10/2011 وكان العالم شاهدا عليها، وبالطريقة الدرامية المأسوية التي كان يعشقها منظّر الجماهير نفسه، وعلي يد التجمهر (الجموع) الذي بشّر بها وطالما داعبها نظامه ودغدغ عواطفها، وغنّي لها تملقا، وغسيلا، وتزويرا، فحانت لحظة الذروة وسداد الثمن، كاشفته الجموع والجمهرة الطليقة، وذاق من معينها كأس الردى، وعرف منها هذه المرة معرفة العيان؛ كيف هو نزوع  الجمهرة الطليقة من كل شيء؟! فقد كان معلما في زحف الجموع ومعلما في تحريضها،  وكيف  كانت تسلك، وكم كانت تسلك لأجل محرضها ومنظرها وعاشقها؟!، أما لحظة الذروة المقدرة في صبيحة 20/10/2011 حيث انقلبت الأدوار تماما بين الجلاّد والضحيّة، وقد عرفها قائد الجموع حية مباشرة، وجها لوجه في الميدان دون رسميات، ودون حراسة نسائية ــأموزنيات فقطــ ولا حتى رجالية، بل دون مكبرات الصوت، وبغير كاميرات مباشرة أو غير مباشرة إلا من رسوليّ الربيع العربي: الفيسبوك وكاميرته الخاصة (اللعينة). هذه اللحظة هي الرضّة النفسية الكبرى التي ضربت ليبيا كلها، ولم يصح منها الليبيون كافة ولم يجاوزوها، وما تزال ليبيا أسيرة لها حتي كتابة هذه السطور، (هي مصدر الأزمة والإشكالية معا) ومحمول طاقتها السلبية تفوق الصدمة الجماعية علي مستوي علم النفس الشعوب... وربما سيناريو المشهد الأخير كان عالميا هو المقصود دون غيره من سيناريوهات  أخرى، وسيظل المشهد نفسه مهمازا أو طبلا  يدق في جنبات ليبيا الضحية ما لم تسود خطة عاجلة لفلسفة التسامح ووعي للوعي السائد بشقيه: الشقي والزائف، إنصافا لليبيا وغالب الليبيين الطيبين.

ولأن هذه الأزمة بطبيعتها العملية ومتواليات أحداثها المتلاحقة استبقت زمانيا إشكالية موضوعها المعرفي الأبستمولوجي (وعي الأزمة: سيرها منطلقها منعرجاتها، أفاقها، وحساباتها) ولكن للأسف كان العقل العملي السياسي المقموع والمكبوح الذي تربى في المنافي والسجون، وعاش في بيئة نابذة طاردة يتوسل جزء منه التيولوجية/ الميكافيلية، وجزء آخر  منه رحل للماضي انفصاميا  ضد الواقع والعصر، يتغذى ويستقوى بصور وهمية لخيال جمعي عدمي، محبط، انتحاري... ومن المؤسف أن كلا العقلين لهما بطانة دولية وليس وطنية، تستخدمهما ضد الوطن كحصان طروادة لمآرب أكبر من خبرتهم وتوافق جنوحهم للسلطة العمياء، ساترهم الحديدي وحاجبهم عن الواقع الأيديولوجيا السوداء (القطة السوداء في الغرفة المظلمة)  كأنها لزوم اللازم  أو غير مستطاع  دونها،  كان ذلك يمثل في نهاية التحليل  وعيا شقيا  حتي لا اقول  زائفا ــ متي..؟! بعد خراب روما ــ، يريد أن يسيطر علي ليبيا فقط أو يريد الثمن (البقشيش) من البقلاوة الكبيرة خير من أن يلهطها غيره - هكذا نمطية أيديولوجية ما قبل الوطنية أو غير منتمية - بكلمة يريد السلطة ولو بالمناورات والانقلابات وأخيرا بالدم والحرب، لم  يهضم وليس له أن يهضم ويستوعب إشكالية بناء الدولة في ليبيا، واستمرار الدولة في التاريخ، وأهمية واحترام صوت الأمة وفئاتها دون تهميش فئة أو مغالبتها بفئة  أخري، ليس مهما عنده تدمير صندوق الرمال الجميل بمدخراته وقد استودعه لنا الأجداد، وليس مهما تفجير الصندوق الأسود هدف المؤامرة الكبرى بل ليس مهما أبدا احترام صندوق الانتخابات وصوت المواطنين... تلك هي عودة ودوران حلزوني لا ينتهي إلا بفناء الذات أو عبثية القطة التي تريد أن تعض ذنبها إلي ما نهاية، ضعف الطالب والمطلوب.... 

(يتبع...)

كاتب ليبي 

[email protected]