" نهار قاهره خلص نهار القاره ..... وقعدت براطيل العدو بالحاره

خلص دين غابي دولــــــــــه .......خلص سي محمد قبل يوفى حوله "

قد لا يعرف أغلبكم من قائل أبيات هذه القصيدة الشعبية ؟ ومتى قيلت؟ و أين؟

هي أبيات لقصيدة انشدها الشاعر " على عمر المعتوق الزنتاني"  بعيد انتصار المقاومة الليبية على قوات الاستعمار الإيطالي في معركة " قاهرة الأولى- سبها" يوم 28\11\1914مـ و التي تمر ذكراها المئوية هذه الأيام، و "السي محمد" المذكور بنص القصيدة هو الشيخ محمد بن عبدالله البوسيفي و هو من قاد معركة " المحروقة " 23\12\1913مــ و استشهد على ارض المعركة، وثأر له المجاهدون في معركة " قاهرة- سبها " بقيادة "سالم بن عبدالنبي الزنتاني " بعد اقل من سنة من استشهاد الشيخ " محمد بن عبدالله البوسيفي " كما هو واضح  في القصيدة.

قد لا تستغرب صلات الأخوة و الوشائج الوطيدة بين أبناء العشائر و القبائل الليبية و وقوفها صفا واحدا ضد التدخل الأجنبي، لكن المدهش في الأمر ان يتم ذلك بعد سنوات وجيزة من نزاع قبلي مسلح كبير بين قبيلة " أولاد بوسيف" و قبيلة " الزنتان " ومن المؤكد أنها خلفت ثارات و أحقاد  بين القبيلتين.

ليس هنالك أي استفادة حقيقية تذكر عند التطرق إلي من المنتصر و من المهزوم  في ذلك النزاع القبلي بين الأخوة في قبيلة الزنتان و أولاد بوسيف. فأي حرب يخوضها ليبي ضد ليبي هي حرب خاسرة لجميع الليبيين، لكن اعتقد ان من الدروس المستفادة عند الإشارة إلي هذه النازلة هي  قدرة أبناء قبيلة " أولاد بوسيف" و " الزنتان" على تناسي الأحقاد و الثارات و الوقوف صفا واحدا ضد التدخل الأجنبي. و هو درس تاريخي مهم لحدت تاريخي مهم أيضا لابد لنا من الإحاطة به و بكل تفاصيله، كذلك لابد من معرفة العرف الاجتماعي السائد في تلك الحقبة و مدى تأثيره على فض النزاعات و الخلافات بين القبائل و أيضا تركيبة النظام القبلي و توازناته و مدى قدرته في تنظيم صفوف القبائل في صف واحد ضد التدخل الأجنبي؟ و البحث في كل هذه القضايا قد يساهم  في تحقيق المصالحة الوطنية بين الليبيين نحن في اشد الحاجة لها الان أكثر من أي شئ اخر

معركة قاهرة – سبها ليست فرصة للاحتفال فقط أو لادعاء الوطنية إذا كنا مازلنا نحمل بعض من بذور الوطنية  أو لإلقاء  التصريحات الرنانة أو الاستفراد بالسبق الصحفي، بل هي فرصة لتقييم و لتمحيص أكثر الدروس المستفادة . واحدة من تلك الدروس المستخلصة هو تصميم قيادات المقاومة الليبية على الاستمرار في مواجهة التدخل الأجنبي الايطالي، بالرغم من  انسحابات بعض القيادات الليبية  بعد معركة " الاصابعة"،  كذلك لا ننسى قلة الإمكانيات و تفوق القوة العسكرية الإيطالية و ضعف الموارد، وبالرغم من كل هذه الصعوبات و احتمالات الهزيمة الظاهرة للعيان فإن تصميم الشيخ " محمد بن عبدالله البوسيفي" و  تصميم الشيخ " سالم بن عبدالنبي الزنتاني" من بعده على المقاومة حقق الانتصار الشبيه بالمعجزة و الذي اضطرت معه ايطاليا إلي سحب قواتها اتجاه  الساحل في اضطراب واضح و انحسارها داخل مدن محدودة.

الدرس المستفاد واضح و هو ان الإرادة و التصميم هو مفتاح لأي انتصار بالرغم من التكاليف و التضحيات، و التصميم و الإرادة الصلبة هو  مفتاح استعادة الأمن و الاستقرار إلي ليبيا اليوم و الخروج من نفق الفوضى ، و هذا سيحدث شريطة البحث عن حلول واقعية للازمة الليبية و انتهاز الفرص لتحقيق ذلك.

ملاحظة أخرى جديرة بالاهتمام عند الحديث عن معركة قاهرة بعد مائة عام كدرس و عبرة فبعد انتصار قاهرة-سبها تقدم المجاهدين من كل القبائل لمبايعة الشيخ المجاهد " المهدي السني" قائدا لمحلة المجاهدين  و نظام " البيعة "  مخزون سياسي ليبي قديم يعمل على نبذ التفرقة و الخلافات و سد الفراغ السياسي و توحيد القبائل و التحالفات في صف واحد ضد التدخل الأجنبي. وحالة الفوضى و الانفلات الأمني التي تعيشها ليبيا الان تتطلب مبايعة شخصية وطنية ليبية ليقود هذه المرحلة نحو الاستقرار و الأمان، كذلك فنظام " البيعة" يقلل من الاستقطاب السياسي و يجدد المآخاة بين الصفوف و ينبذ النزعة الجهوية و يحد من تدخل القوة الأجنبية.

أيضا من وحي قاهرة- سبها فالمعروف تاريخيا ان " معركة قاهرة- سبها " كانت نقطة البداية للانتصار الكبير في معركة " القرضابية "  معركة كل الليبيين التي اعد لها قيادات العديد من الصفوف الليبية كالشيخ محمد سوف المحمودي و الشيخ صالح الاطيوش و الشيخ حمد سيف النصر و الشيخ صفي الدين السنوسي و الشيخ رمضان السويحلي و الشيخ عبدالنبي بلخير.

فيوم 29|4|1915مـ يوم" القرضابية" يوم خالد من أيام ليبيا  العظيمة توحدت فيه صفوف اغلب الليبيين في صف واحد ضد التدخل الأجنبي ونبذت كل خلافاتها لأجل مصلحة عامة هي مصلحة الوطن. هذا اليوم، أي يوم معركة"   "القرضابية"  هو اليوم  الأجدر ليكون اليوم الوطني الأول لليبيا، فيوم 17 فبراير يمثل أنصار صف فبراير و الفاتح سبتمبر يمثل أنصار صف سبتمبر فقط و يوم 29 ابريل يوم معركة " القرضابية" يمثل جميع الصفوف الليبية، يوم القرضابية  ليس فقط  يوم انتصر فيه الليبيون على التدخل الأجنبي فحسب بل و انتصروا فيه على أنفسهم، على   الجهوية و القبلية، غلبوا فيه مصلحة الوطن على مصالحهم الخاصة، يوم تقاطر فيه الليبيون البسطاء من الجنوب و الغرب و الشرق انتصارا لليبيا و تصديا للتدخل الأجنبي ، يوم يحمل كل سمات اليوم الوطني من الدعوة إلي الوحدة و المصالحة بين الليبيين.

 وبالمناسبة و نحن نقترب من الذكرى المائة لانتصار الأجداد في معركة " القرضابية " في 29 من ابريل القادم و لأجل تقليص حدة الاختلاف و النزاع و الفرقة بين الليبيين فالجمعية التأسيسية لمشروع صياغة الدستور" مطالبة بمراجعة دقيقة لهذا الاقتراح و الإعداد لاستفتاء حول يوم 29 ابريل كيوم وطني أول لليبيا، والتعويل كل التعويل على قيادات الصفوف الوطنية بالضغط  لتكريس هذا اليوم كيوم وطني موحد لليبيين و لا تعويل يذكر على مؤسسات المجتمع المدني المستوردة و الفاشلة كما يبدو ان ما يهمها هو ذكرى عيد العمال " يوم أمريكي صرف لا علاقة لنا به " أكثر من اهتمامها بالقرضابية.

شئ أخر لابد لنا من معرفته  فالدروس المستفادة لا تنتج عن الانتصارات وحدها، فحين نلقي نظرة دقيقة عن  تاريخ مقاومة الاستعمار الايطالي و خاصة ما بعد " القرضابية " فأن الصورة ليست وردية بتلك الدرجة، فبعد " القرضابية " انطلقت النزاعات و الخلافات بين القادة و المشايخ و القبائل من جديد بالرغم من محاولات إطفائها، و لعل من أهم الأسباب التي أدت إلي كل هذا الاضطراب هو الفراغ السياسي الناتج عن انسحاب الأتراك المفاجئ بعد اتفاقية " أوشي لوزان" و  الضغط الايطالي المتفوق عسكريا للقضاء على المقاومة في اقرب فرصة كانت له أثاره السلبية وكذلك سياسة " فرق تسد" التي اتبعها الحكم الايطالي الاستعماري مع الليبيين  بعد خسارته في "القرضابية " و بكل امتياز كان لها أثارها في انقسام الصف الليبي و النزاع الجوي و هذه نقطة تسجل لصالح الطليان في قدرتهم على إيجاد دروس مستفادة من خلال الهزيمة، كذلك فسياسية " فرق تسد " استعملها الأتراك مع الليبيين عند عودتهم القصيرة مرة أخرى إلي الساحة الليبية خلال الحرب العالمية الأولى و كل هذا لم يعطي الفرصة للقيادات لانتصار كامل.

 كل هذه الدروس المستفادة هي من وحي مائة عام من انتصار قاهرة – سبها و سيبقى الدرس الكبير في كل هذا السرد هو ان التدخل الأجنبي سواء كان ايطاليا أو تركيا أو حتى عربيا كائنا من كان  لازال حتى الان المحرك الرئيسي لجميع القلاقل و النزاعات في ليبيا و لن نستطيع مواجهته إلا من خلال رفع مستوى الاهتمام بثقافتنا و هويتننا الواحدة ، كذلك  بالاهتمام بتاريخنا، بالاستفادة من تدابير الأوائل و الوقوف عند عثراتهم، أيضا بوقوف القبائل و المدن الليبية صفا واحدا و المبايعة و الالتفاف حول شخصية وطنية ليبية لقيادة المرحلة سيكون أساس حل المشكل السياسي الليبي و يقلص من حجم النفوذ الخارجي و يقلل من الاستقطاب السياسي الجاري في ليبيا و إلا فالخيار المتاح من الان و حتى مدة غير قريبة هو  ليبيا اللادولة وسط حالة من فوضى و عدم الاستقرار، دولة تتبع نفوذ التدخل الأجنبي سواء كان ذلك غربي أو عربي بنفس الوثيرة التي تعيشه لبنان و العراق من  فوضى و فراغ سياسي.

 ربما .. قد يتبادر في ذهن الطبقة المثقفة المترفة في ليبيا  سخافة  طرح نظام " المبايعة " فلا تذهبوا بتفكيركم إلي التاريخ البعيد للكلمة فأي نظام مهما كان باليا و خارج نطاق العصر ما ان  يتم التطوير فيه فأنه يصير صالحا للتطبيق على  ارض الواقع أكثر من غيره من المفاهيم، و ربما فرضية من ارض الواقع تسهل عليكم فهم طرح نظام "البيعة" كنظام بديل للفوضى الواقعة اليوم، فدولة مثل السعودية تعتمد نظام " البيعة " هي دولة مستقرة و آمنة بل و تفرض نفوذها على دول الجوار و المنطقة بينما دولة مثل العراق تعتمد نظام " البرلمان النيابي " مثلنا فشلت خلال عشرة سنوات من فرض الاستقرار و الأمن حتى داخل المنطقة الخضراء في بغداد، و سقوط مدن عراقية بتلك السهولة في يد "داعش" هو خير شاهد على فشل تجربة البرلمان النيابي التي نخوضها في تكرار ساذج لتجربة فاشلة. فقط اسألوا الليبراليان  "محمود شمام" و " المجاهد البوسيفي" عن نظام " البيعة " في الخليج فهم أدرى بحقيقة نجاح البيعة دون الحاجة إلي إحراجهما بسؤال عن مسار التجربة الديمقراطية هناك..!

هذه ليست محاولة للسخرية أو للتهريج و ليست محاولة لإدانة النظام الديمقراطي بل مطالبة للتفكير بواقعية بعيدا عن المثاليات و النرجسية و الثوراجية الكاذبة. و علي أي حال .. فنظام " المبايعة " يساعد بشكل كبير علي إيجاد أرضية مناسبة لديمقراطية حقيقية في حال تطبيق كل شروط البيعة. عموما هذا ليس كل شئ عن المبايعة ، فـــ" البيعة و الصفوف" ستكون عنوان مقال قادم من وحي معركة  " قاهرة – سبها " و معركة " القرضابية " و من وحي تاريخ ليبيا العريق قد تكون فيه بعض الإجابة.

 أخيرا ..لا تنسوا يوم 29 ابريل عيد وطني أول و موحد لجميع الليبيين دون سواه، يوم لاستعادة الثقة في تاريخنا، و يوم للوحدة و التذكير بالمصالحة الوطنية.

 

كاتب ليبي