بعد انتهاء مهمته في ليبيا، وجد المبعوث الدولي، وممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العاصمة الليبية، طارق متري، نفسه قادرا على الحديث بحرية، دون قيود تفرضها عليه الوظيفة، عن دوره في الحراك السياسي الليبي، مع إشارة إلى نتائج مهمته التي استمرت لمدة عامين، قبل أن يتسلمها خليفته الأسباني برنادينو ليون.

وقد تكرر في الأحاديث التي أدلى بها إلى الإعلام تعبير يقول فيه “ليبيا بلد الفرص الضائعة”، وهو تعبير أريد أن أقف عنده، وقد قاله في بداية الحديث مصحوبا بالفعل الماضي الناقص “كانت”، وعنى به العهد السابق لثورة 17 فبراير، الذي أضاع على ليبيا فرص التقدم الكثيرة والمبهرة، ومشاريع النهوض والإقلاع، التي حققتها دول نفطية عربية وأجنبية خلال العقود الأربعة التي هيمن فيها نظام سبتمبر الانقلابي على مقدرات البلاد، وتركها، بعد هذه العقود الأربعة، تعاني تخلفا في مختلف مجالات الإنتاج، تصنيعا وزراعة وعلما ومنتجا ثقافيا، وانهيارا في قطاعات الخدمات، فلا مواصلات ولا خدمات صحية ولا تعليم ولا سياحة، وتشهد على ذلك المعدلات الدولية التي تضع ليبيا في أسفل القوائم بما في ذلك الحريات العامة والخاصة، مع تجريف للقيم والأخلاق والسلوكيات، وإيقاظ للنعرات العشائرية والمناطقية.

وبمثل ما كانت هذه الأوضاع، حافزا ودافعا للثورة، التي أطاحت بحكم الانقلاب، فقد تركت آثارا سلبية في النفوس، انعكست على ما طفح على السطح من مشاكل وعقد في الحراك السياسي والاجتماعي الذي أعقب الثورة، وأبى النظام الاستبدادي الانقلابي إلا أن يخوض حربا مدمّرة ضد الشعب الثائر، استمرت ثمانية أشهر، نشأت خلالها حزازات جديدة، وانقسامات خطيرة، بين فئات الشعب، ونتج عنها انتشار السلاح بشكل وصل إلى أرقام فلكية للقطع الموجودة خارج إطار الشرعية، وهو ما صنع تبعات مازالت البلاد تعاني منها، احترابا واختلاطا للأوراق وقلبا للحقائق وامتناعا عن حل النزاعات السياسية بالحوار، وهي أمور عاينها السيد طارق متري، وحاول قدر جهده التعامل معها، بأسلوب الهيئة الأممية التي تسعى لإحلال السلام بدل الاقتتال، والتفاوض بدل الصراع المسلح، والاحتكام إلى صندوق الاقتراع بدل الاحتكام إلى السلاح والقوة، واللجوء إلى معنى الوطن، بدلا من تغليب العامل العشائري والجهوي. وفي حديثه للإعلام أعاد “الفرص الضائعة” بصيغة المستقبل، عندما عبّر عن خشيته من أن يستمر الليبيون في إضاعة الفرص المتاحة لهم بعد الثورة، لبناء الدولة البديلة لدولة الانقلاب المنهارة، التي اعتبر طارق متري أنها أماتت السياسة، ولكن هذه السياسة التي ماتت خلال اثنين وأربعين عاما من الاستبداد، عادت للحياة، بشكل كارثي، وتفجّرت كأنها البركان الذي يلقي بالحمم، وتحولت من سياسة إلى خروج على الشرعية، وخروج على القانون، وخروج حتى على القيم الإنسانية. تفجرت رعبا وقتلا وخطفا وإجراما، ومحاولة لفرض السيطرة بقوة السلاح، وليس بمنطق الشرعية والتفويض الشعبي القائم على صناديق الاقتراع. لقد حقق الطاغية انتقامه، وأنجز بعد موته، وعده الذي قطعه على نفسه، عندما قال “أنا ومن بعدي الطوفان”.

 

ومقابل الأداء البطولي الذي تجلى في الثورة على العهد الانقلابي، وروح الفداء والبذل والعطاء التي قدمها ثوار حقيقيون، انضم عشرات الآلاف منهم إلى قافلة الشهداء، كان هناك أيضا الجانب السلبي الذي ساعد على تحريكه ذلك العهد، فهو قد أخرج ما لا يقل عن ثلاثين ألف سجين جنائي من سجونه للاستعانة بهم في الدفاع عن سلطته، كما فتح مخازن السلاح لتوزيعها على القبائل الموالية له، وعندما انتهى الاحتراب، كانت النتيجة وجود أكثر من عشرين ألف قطعة سلاح منتشرة في البلاد، أغلبها خارج القانون، وخارج الشرعية، وفي حوزة ميليشيات اختلط فيها الثوار مع آلاف الخارجين من السجون الجنائية، تم استقطابهم من بعض الميليشيات، لكي تحقق بهم ترجيح كفة القوة على ميليشيات أخرى تنافسها، وصنعت خلطة السلاح والمجرمين وستار الثوار، وجرعة الإسلام السياسي، المشهد الذي استجد بعد نجاح الثورة، وتسيدت فيه جماعات مسلحة، خارجة عن سلطة الدولة والقانون، على الحراك السياسي والعسكري في البلاد.

زد على ذلك أن عددا كثيرا من الليبيين المتطرفين إسلاميا، والذين التحقوا بالقاعدة وحاربوا معها في أفغانستان، وازدادوا غلوّا في تشددهم الديني ورفضهم للدولة العصرية الحديثة، عادوا إلى ليبيا بعد سقوط النظام، وقد اكتسبوا خبرات قتالية وتنظيمية، وهيأ لهم زملاء في العقيدة متواجدون في أرض الوطن، مكانا في الحراك “الميليشياوي”، واستحوذوا على السلاح وعلى المعسكرات، وعلى أموال قدمتها لهم قيادات الحراك السياسي في المؤتمر الوطني، والحكومات المؤقتة المتعاقبة، وصنعوا لهم إمارة إسلامية في الجبل الأخضر، وأطلقوا على أنفسهم تسمية “أنصار الشريعة” وأعلنوا انضمامهم إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، التي استنفر العالم في الشرق والغرب قواه لمحاربتها، وباشر هذه الحرب، إلا أنه استثنى “داعش” في ليبيا، فلم نر استهدافا لها ولا حديثا عن حرب ضدها، وترك التحالف ضد “داعش”، ليبيا تعاني وحدها، وبإمكانات بقايا الجيش الرسمي المواجهة مع هذه الكائنات المتوحشة.

ولاشك في أن حديث المندوب الأممي عن براعة الليبيين في إضاعة الفرص، وخشيته في أن يستمر هذا التبديد مستقبلا، حديث صحيح، ولم يكن خليفته الأسباني، ولا رئيسه بان كي مون، وهو يزور طرابلس منذ أيام قليلة مضت، أقل منه فصاحة في التعبير عن هذه الخشية، والحديث عن الأسف والأسى لواقع الحال الليبي، ولكن هذا الواقع المؤسف وهذه الفرص الضائعة ليست بعيدة أيضا عن المجتمع الدولي ولا عن الهيئة الأممية، وما يحدث من إهمال حزين ومؤسف للشأن الليبي، ومعاناة المواطن الليبي، وصمت مريب وغريب تقابل به صرخات النجدة التي يطلقها البرلمان الليبي والحكومة الليبية المؤقتة التابعة للبرلمان.

 

 

كاتب ليبي