بات واضحا أن تنظيم داعش تغلغل في ليبيا كتغلغل السرطان في جسد إنسان مرهق كان أهله يعالجونه بالدعاء والأمنيات الى أن شارف على لحظة الوداع الأخير ، 

في ربيع 2011 وبينما كان طيران الناتو يقصف ليبيا مدعوما بتكبيرات الثوار وتنافس العملاء على مده بالإحداثيات ، كانت هناك مفاوضات سرية تدور في الخفاء بين محسوبين على النظام القائم آنذاك والإدارة الإمريكية انطلاقا من جزيرة جربة التونسية ، أحد المفاوضين الليبيين قال للطرف الأمريكي : المتشددون من القاعدة هم من يقودون الحرب ضدنا ، فرد عليه الأمريكي : توقفوا عن هذا الحديث ، نحن نسمح بالحديث في كل المواضيع ما عدا هذا ، وقطع الحوار 

اليوم يبدو أن ما قاله القذافي ونجله سيف الاسلام لم يكن هلوسات كما إدعى ثوار الناتو ووسائل إعلام الفتنة ، فالإرهاب كان هو العنصر الفاعل في المعركة ، وقتل الليبيين أنطلق منذ اليوم الأول في بنغازي  عندما تمت تصفية عناصر من الجيش الليبي برصاص القاعدة ، وبثت الفضائيات صور جثث القتلى مع الإدعاء بأن النظام هو الذي قتلهم لأنهم رفضوا تنفيذ الأوامر بقنص المحتجين 

ولا شك أن صورة شوشان العجيلي الجندي الأسمر الذي تم قتله وتعليقه في جسر وسلخ جلده تشير الى أن ما حدث في ليبيا كان حالة من الجنون ندخل اليوم ذكراها الرابعة بكثير من البؤس واليأس ومرارة الكأس 

والذين ينسون فندق جنات وقتل الجنود الليبين وأكل الأكباد ورفع علم إسرائيل عليهم أن يسترجعوا صفحات الماضي القريب ولو إعتمادا على المستر غوغل الجاهز لتحقيق الأماني 

إن ما جرى في ليبيا كان جريمة بكل ما في الكلمة من معنى ، وكان مؤامرة و وكان عدوانا همجيا شاركت فيه دول وحكومات ومنظمات ووسائل اعلام وحقوقيون ومثقفون ومفكرون ومحللون ورجال أعمال وأجهزة مخابرات كانت جميعا تصب في هدف واحد وهو الإطاحة بالقذافي مهما كان الثمن ولو بفتح الطريق أمام القاعدة والإرهاب وتشريد الشعب وسفك دماء الأبرياء 

لقد رقص الجميع على جثث الليبيين تحت يافطة أكاذيب جاهزة للترويج منها الديمقراطية والتحرير وحقوق الإنسان ، ولكن لا أحد كان يعمل العقل لفهم طبيعة المؤامرة التي بدأت مع الإخوان وأنتهت الى داعش ، خصوصا وأن الفكر الدواعشي هو نتاج التطور الطبيعي للفكر الإخواني 

كانت ليبيا ضحية أطماع دولية وإقليمية وضحية التئامر العربي مجسدا في الجامعة العربية وبعض الدول التي عملت كل ما في وسعها الى تجزئة الجسد الليبي بسكين مجلس الأمن ، ولكن الأدهى والأمرّ أنها كانت ضحية خيانات الداخل وخاصة من ساسة ومسؤولين ورجال أعمال ومثقفين وإعلاميين كانوا محسوبين على النظام السابق لعل من أبرزهم وزير العدل مصطفى عبد الجليل الذي تم إيفاده  من طرابلس الى بنغازي لإطفاء الحريق فقام بتأجيجه ، وعبد الرحمان شلغم الذي باع البلاد والعباد إطلاقا من الأمم المتحدة ، وعبد الفتاح يونس الذي إنقلب على رفيقه في لحظة أنانية لينتهي قتيلا بسلاح الإرهاب في جريمة لا تزال تبحث عن حكم عادل في حق مرتكبيها 

ثم كان ما كان بعد سقوط النظام ، سرقوا الثروة ، وشردوا ثلث الشعب الى الخارج ، وطردوا السكان المحللين من مناطق عدة مرة بسبب الموقف العنصري وأخرى بسبب تصفية الحسابات القبلية أو السياسية ، وتحول أمراء الحرب الى قاعدة وزعماء ، وبات تنظيم القاعدة جزءا من جهاز الحكم ، وتدخلت قوى خارجية للسيطرة على البلاد مرّة بإسم الليبيرالية ومرّة بإسم الإسلام المعتدل في إشارة  الى جماعة الإخوان 

ولكن الجماعات المتشددة كانت تستعد لمشروع أكبر يعصف بالجميع ، وإستطاعت أن تستفيد من صراع الليبييراليين والإخوان ، وصراع الثوار والأزلام ، وصراع الشرق والغرب ، وصراع الكرامة وفجر ليبيا ، وصراع الجيش والميلشيات ، ثم نجحت في التغلغل بين أمراء الحرب والدروع والثوار ومسلحي مصراتة وطرابلس وسرت وبنغازي وغيرها ، لتصبح اليوم الرقم الصعب ، ولتستعد لخوض مواجهة مفتوحة وعاجلة كالتي عرفتها سوريا بين داعش من جهة وجبهة النصرة والجيش الحر من جهة أخرى 

وستشاهدون قريبا كيف ستتجه كتائب كاملة ممن يسمون أنفسهم بالثوار لتعلن الولاء للبغدادي وداعش ، فمحترفو الحرب لا يهمهم تحت أية راية ينضوون وإنما يهمهم فقط السير تحت إمرة الأقوى وكسب الغنائم وتحقيق أهدافهم ومصالحهم بعد أن باتوا مدمنين على رائحة البارود 

أن ليبيا لم تعد ليبيا وإنما دخلت مرحلة الفوضى العارمة في ظل غياب العقل ، والشعارات الدينية باتت مرفوعة من قبل الجميع ، والحاضنة الإجتماعية للإرهاب أضحت متوفرة بعد اربعة أعوام من القتل والرعب ، وعموم الشعب المحروم والمهموم والمحتار لا يهمه شيء كما يهمه الأمان ولو كان تحت راية داعش ، بينما أثبت الساسة إفلاسهم ، وإنتهى ثوار الناتو الى صيادي غنائم في ورشفانة والعجيلات وبني وليد وكافة مناطق البلاد 

ليبيا لمن ؟ ليبيا لم تعد لأي طرف ولكنها ستكون للأقوى لاحقا في ظل فشل الدولة وإنهيار المجتمع 

ليبيا الى أين ؟ ليبيا الى دمار أكثر وخراب أكثر أن لم يعترف كل مخطيء بما إقترفت يداه ، وتتصافى القلوب ، ويتجاوز الفرقاء الماضي خلافاتهم وصراعاتهم ، ويعلنون المصالحة والعفو الشامل وإنقاد البلاد من خطر الضياع الأبدي 

كاتب وشاعر تونسي