كارثة ليبيا الحقيقية أن مصيرها قرّره من كانوا لا يعرفون شيئا عنها ، ولا يزالون على جهلهم بها ، وكارثة ليبيا أن القوى الخارجية عربية وأجنبية ، قريبة وبعيدة نظرت وإليها فقط كحقول نفط وغاز وإمكانيات مالية وثروات تحت التراب ، وكدولة  كان يحكمها زعيم مثير للجدل إسمه معمّر القذافي 

وكارثة ليبيا أنها بقيت ولمدة أربعين عاما بلدا مغلقا ، مجهولا ، لذلك لا أحد ممن تداعوا لتخريبه كان  يعرف تاريخه وحضارته وآثاره وجغرافيته وطبيعة مجتمعه ، لا أحد يعرف عراقة ماضيه ، ونقوش الإنسان البدائي على صخور الأكاكوس ، والأهرامات الصغيرة والمومياءات الجرمية ،ووادي الإنجيل حيث قبر  الإنجيلي مرقس  كاتب السفر الثاني من العهد الجديد ومؤسس الكنسية القبطية الأرثوذكسية ، ولا شيشنغ الليبي الذي حكم مصر وإمتدّ حكمه الى القدس والشام ،وأسرته الثانية والعشرين  التي إستمر حكمها الفرعوني لمدة 120 عاما، لا أحد يعرف حكم الليبيين لروما ،ولا أحد يعرف لبدة وشحات وصبراتة وسوسة ، لا أحد يعرف حرب السنوات الأربع التي هزم فيها الليبيون الأمريكان وأسروا حاملة جندهم فيلادلفيا في العام 1804 ما جعل إسم طرابلس راسخا لحد اليوم في نشيد المارينز ،بل لا أحد يعرف ماذا تعني غدامس وغات ومرزق والكفرة والمرج ودرنة ونالوت ، ولا أحد يفهم التنوع الحضاري العربي الأمازيغي ،وعادات وتقاليد الطوارق والتبو ، ومجد طرابلس ، والسرايا الحمراء ، والقبائل الممتدة في الدول المجاورة ،تلك التي حاربت الأتراك والإيطاليين ،وتحدت الأمريكييبن والأنجليز والفرنسيين ، ولا يزال بها إستعداد للتحدي

حتى الذي يكررون اليوم مقولة « نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت » لا يعرفون أن تلك الكلمات لم يقلها عمر المختار وإنما أضافها معمر القذافي الى السيناريو كما أضاف فكرة المشهد الأخير والنظارات ، وعندما قيل له أن نظارات عمر المختار في روما ، قال « لو أعلمتوني لمنعت أي إيطالي من مغادرة ليبيا يوم الجلاء قبل أن تعاد نظارات عمر المختار إلينا » 

حتى فيلم عمر المختار كان سيكون عن شخصية أخرى وهو الزعيم وفارس بني وليد عبد النبي بالخير ولكن الخوف من تحريك النعرة الجهوية  مع مصراتة بسبب قصة مقتل رمضان السويحلي حوّل الإتجاه للبحث عن شخصية أخرى فكان الإختيار على عمر المختار ، 

حتى عندما ذهب القذافي الى روما وجيء له بإيطاليات جميلات كان يرد على مشهد من التاريخ زمن الإحتلال الإيطالي 

والذين يجهلون ليبيا وتضاريسها المجتمعية ، هم الذين قادوا الحرب المدمرة عليها بهدف تحويلها الى جمهورية غاز ( في غياب الموز ) على ساحل المتوسط ، وقد تم التلاعب بكل شيء : التاريخ والجغرافيا والتحالفات والحسابات والتوازنات القبلية والجهوية والعرقية ، حتى قصعة ( البازين ) تحولت الى منبر سياسي لماكين وليفي ومن جاؤوا على طائرات الناتو وسفنه ، وأخيرا الى السفيرة ديبورا ،  وبات عاديا أن يلعب البعض بالأعراض في مجتمع قبلي ، وأن يتم التحقيق مع الليبيين رجالا ونساء من قبل ضباط قطريين ، وأن يتم نقل أرشيف المخابرات الى الدوحة في عملية سرقة موصوفة  ، 

والذين يجهلون ليبيا ، لا يعرفون أنهم إنما دخلوا بالبلاد في نفق مظلم من الثأرات التي لن يتم تجاوزها بسهولة ولا حتى بصعوبة ، ستبقى عنوانا للتشقق المجتمعي غير القابل للترميم ، فقتل وسحل وسلخ جلود أبناء القبائل ،وإغتصابهم في السجون ، وإيلاج فوهات الكلاشينكوف في مؤخرات الرجال وفروج النساء لن ينسى ، وجرائم الميلشيات المهلوسة ، والتكبير على المسلمين وتقديمهم  للمسالخ كالنعاج لن ينسى ، وتهجير ثلث الشعب الى أرصفة الدول المجاورة لن ينسى ،وتهجير الأبرياء من مناطقهم بعد تخريب مدنهم وقراهم لن ينسى ، والرمي بالنساء والأطفال  والعجائز في معتقلات الميلشيات لن ينسى 

والجاهلون بليبيا هم الذي نظرا إليها كغنيمة جاهزة للتقسيم فشيطنوا السابق وقدّسوا اللاحق ،وأعتقدوا أن المسألة بكل هذه البساطة : إقتلاع نظام عقائدي وقتل وسحل زعيم بدوي قبلي ،وتدمير كتائب الجيش المكونة أساسا من أبناء القبائل ، والإعتداء الهمجي على المدن تحت غطاء طائرات الناتو ، وذبح مواطنين ليبيين سود وتقديمهم على قناة « الجزيرة » ْعلى أنهم مرتزقة فتك بهم الثوار ، وتمزيق جلابيب النساء وإغتصابهن في معتقلات الظلام 

الجاهلون بليبيا حسبوا أن القبائل التي تعرضت حرمات مدنها وقراها للإنتهاك  من قبل مسلحي المدن والمرتزقة ستنسى ، وستتجاوز ، وسترفع صور أمير قطر وبرنارد ليفي ، وستوجّه رسائل الشكر لساركوزي وأوباما 

الجاهلون بليبيا لا يعرفون ماذا تعني ورفلة وترهونة وورشفانة والمقارحة والعجيلات والنوايل والحرارات وأولاد الشيخ والمشاشية والرياينة والقذاذفة وغيرها من القبائل ، ولا ماذا تعني بوسليم والهضبة ، ولا مدن بني وليد والزهراء وبراك الشاطيء ورقدالين وبدر وتيجي وسرت وغيرها 

ذهب في ظنهم أن ما حدث في ليبيا لا يختلف عما حدث في تونس ،وهم لا يدركون أن حدث إمتداد لما حدث في العراق وفي أفغانستان ، ويريدون أن تكون النتيجة إمتدادا لما حدث في تونس ولم يضعوا في تصورهم أن يكون أمتدادا للصومال ، 

الذين يجهلون ليبيا ، لا يعرفون أن الحكم الإنتقالي تأسس على سلاح الميلشيات مخافة عودة النظام القديم الذي لا يزال أنصاره أكثر من أنصر فبراير  ، يكفي أن أكثر من ثلث الشعب المهجرّ في الخارج وهم من أنصاره ، وأغلب القبائل لا تزال تواليه ، ونتيجة ذلك تفرعن المسلحون و تفاقم الفساد والأرهاب ، وعشش التكفير ، وإكتشف العالم أن القاعدة تحكم في ليبيا ، وأنصار الشريعة تتجوّل في المؤتمر العام وكواليس الحكومة ، 

والذين يجهلون ليبيا ، لا يزالون يحللون الوضع بأدواتهم البائسة التي إستوردوها من الغرب دون أن يفهموا الحقيقة ،وهي أن أدوات الغرب لن تفلح في ليبيا ، وأن شعارات الديمقراطية الغربية لن تنجح مع القبائل ، وأن شيطنة القذافي  ونظامه لن يدفع بالليبيين الى تسليم أمرهم لحكام مزدوجي الجنسية ، مستلبي الهوية ، مرتبطين بمصالح القوى الكبرى 

قبل قرن ، دخلت إيطاليا من المنافذ ذاتها ، وتم تهجير الليبيين ، وتعرض الالاف للإعتقال والقتل والسحل والتشريد تماما كما حدث أخيرا ، ولكن الليبيين لم يستسلموا ، وقادوا معارك الجهاد ، وإنتصروا لكرامتهم 

الذين يجهلون ليبيا ،قد لا يعرفون أن المصالحة السياسية وإن حدثت فلن تقود الى مصالحة إجتماعية لأن الجرح غائر والمأساة كبيرة ، وأن الحل الليبي يمر حتما عبر القبائل وأعيانها ، عبر الإعتذار والتعويض في حضور ولي الدم القادر على الإحتواء 

الذين يجهلون ليبيا عليهم الصمت قليلا  ليتركوا المجال لأهل البلاد الأصليين والحقيقيين والمغروسين في أرضها كالنخيل والزيتون  ،فهم القادرون على تقرير مصيرها بالشكل الذي يشاؤون