ليبيا، البلد العربي الوحيد الذي كان يعتقد دوماً بأنه الأكثر تناغماً وتكاملاً دينياً واجتماعياً دخل فورا وبعد نهاية الثورة متاهات الصراعات ذات البعد السياسي والديني، ليثبت بأن ذلك ليس حقيقة كافية لاستتباب الأمن وحلول الاستقرار، الديمقراطية، الآمن والسلام. في نفس الوقت أضحي بديهياً بأن لا الثورات التي انفجرت ولا الثروات التي نبعت في هذا البلد الكبير المساحة والقليل من حيث السكان، جلبت له يوماً ما الرخاء، العدالة والازدهار. فعلاً مثل ذلك أمر غريب، ويفرض على الليبيين قبل غيرهم التمعن في الوضع والبحث عن الحلول المناسبة.

على ما يبدو محكوم على هذا البلد، رغم ما أنعم الله عليه من ثروات وثورات، أن يكون أقرب لدول العالم المتأخر منه إلى المتقدم. بشكل مستمر يلاحق هذا البلد سؤال محق، كيف انه ورغم تعدد الثورات وامتلاكه قدر هائل من الثروات، مقارنة بجارته تونس وبعض من بلدان القارة السوداء، وما زال يعتبر بلد متأخراً وللأسف متفكك. الواضح حالياً، وكما كان في عهد العقيد، يبدو البلد مسلوب الإرادة، بكل ما تحمل الكلمة من معانى. مسلوب الإرادة من قبل كافي القوي التى تحمل السلاح (قوات حفتر، فجر ليبيا، أنصار الشريعة، مجلس شوري بنغازي) وتقاتل بعضها البعض باسم الوطن والدين. ما يؤكده كثير من الليبيين هو ان كلاهما بريء من افعالهم.

كل ليبي يعي ويصرح، بصوت عالي حياناً وبخجل حياناً أخر، بأن مختلف الثورات وكثرة الثراء لم يمكنا الشعب الليبي من تجاوز عقدتان لا ثالث لهم. تأخر منطق الفكر الذي يخيم على شرائح متنوعة، خاصة تلك التي تنتمي إلى القيادات الحاكمة، والصراع الدائم بين من يرغب في تحديث البلاد بأسرع وقت ممكن وبين من يريد أن تبقي مسيرة الحركة بطيئة وعلى نمط واحد من الفكر، الثوري حيناً والديني حيناً أخر. رغم عمق جدلية مثل هذا الصراع وتفاوتها في معظم الدول العربية فأنها تبدو جلية وعلى اشد وتيراتها في ليبيا.

هنالك من يؤكد بأن القبلية (قبائل الزنتان، برقة، أجدابيا، مصراته) والجهوية (طرابلس، طبرق-بنغازي) تلعب دوراً هاماً في التأخر والتفكك الليبي. نوعاً ما ذلك صحيح، لكن من الممكن أن يكون لهذه الأمور دوراً إيجابياً لو وظفت بشكل سليم للمساهمة في خلق نوع من التوازن والترابط الداخلي. المشكله هو أن هنالك من يؤجج ويوظف هذه العناصر بطريقة سلبية. ما يخلق دوماً انطباع بأنهم حجر عثرة في طريق تقدم واستقرار ليبيا. القضية هنا قضية كيفية النظر والتعامل مع الأمور. خاصة وأنه من الصعب خلق شعب ليبي أخر في يوم وليلة.

طبعاً الصراع المحتدم حالياً والذي يتمنى الجميع أن يكون وقف اطلاق النار الذي اعلن عنه منذ ايام يكون بداية لنهاية الصراع، صراع هدفه الاساسي الوصول الى الحكم لكي يتمكن كل طرف من فرض اجندته الخاصة على كل ليبيا. فيما يتعلق بالتدخلات الخارجية الكل يعلم بأنها ليس سوي امتداد للمنافسات التي تحدث بين دولة معينه فى المنطقة لفرض مواقفها وتقوية دورها، والتي يدفع ثمنها الشعب المغلوب على أمره. نقصد بالتحديد المنافسة بين مصر والأمارات من جهة وتركيا وقطر من جهة أخري، بدعم من المحيط الدولي.

على كل الأحوال حتى لو اتفقت هذه الدول فيما بينها فيما يتعلق بالوضع في ليبيا فأن النزاع داخل هذا البلد سوف يستمر إن لم تتفاهم مختلف الجهات المتنازعة (المدن، القبائل، المجالس، المليشيات والجيوش) حول كيف يريدون أن تكون ليبيا الغد والمستقبل. هذا التفاهم يجب ان يرتكز الحوار القائم على فكرة “لا غالب ولا مغلوب وليبيا بكبر حجمها تسع لأفكار الجميع) بدون أن تهمل فكرة التوزيع العادل للثروات الوطنية الهائلة.

تحت حكم القذافي كتب علي ليبيا العيش باستمرار تحت هاجس الحصار والملاحقة والآن وبعد كسر قيد الاستبداد فمازال الحال نوعاً ما على ما هو عليه، إن لم يكن أسؤ، حسب ما يؤكد على ذلك معظم الأصدقاء الليبيين. على ما يبدو ورغم كل التغيرات التي تحدث له ومن حوله فقد كتب علي هذا البلد أن يعيش تحت طائل أحد أصعب المعادلات السياسية منذ الاستقلال (1953) حتى يومنا هذا. معادلة قائمة على العيش اما تحت طائل الانقسامات الداخلية أو تحت طائل الضغوطات الخارجية. الناتج هو خراب البلاد وتشريد العباد.

حتى هذه اللحظة لم تجد القيادات الليبية، لا السابقة أو الحالية، لغز الخروج وتجاوز هذه المعادلة التي أبقت ليبيا خلال النصف القرن الاخير على هامش التاريخ والجغرافيا. حالياً الوضع هو اعقد مقارنة بالماضي القريب. رغم كثرة موائد الحوار التي تجمع كافة الأطراف في عواصم كثيرة من العالم (القاهرة، مدريد، باريس، لندن وجنيف) فما زالت كافة الاطراف المتنازعة بعيدة نوعاً ما عن إيجاد أرضية مشتركة تسمح بإخراج ليبيا من النفق المظلم. وذلك نتيجة الشكوك في النوايا وتمسك كل طرف في مواقفه المتحجرة على حساب الوطن، الشعب وخيراته، والتي تحرق يومياً بأيدي ليبية وأمام أعين العالم.

الشعب الليبي شعب سلس في تعامله مع الآخرين. أو هكذا يبدو من النظرة الأولي. كل غريب يقترب منه يلاحظ عليه مسحة من الهدوء لا تتبلور سوي بعد فترة من هيمنة ثقافة القهر والظلم. الصعوبة الحقيقة تكمن في طريقة تعامل الليبيين مع أنفسهم. حسب ما يقال الليبي يجد سهولة فائقة في التعامل والتفاهم مع الغير منه مع أبن وطنه. هذا ما يعني أن الليونة الليبية مجرد قشرة خارجية لكنها تخفي جفاء وصلابة داخلية.

المؤكد هو أن الغالبية العظمي من أبناء الشعب الليبي تتمني لو قدر الله لها بقيادات مختلفة شبيه بتلك التي تتحكم زمام الأمور في الجارة تونس. قيادات فهمت مجري الأحداث الداخلية والخارجية. لذلك عملت جميعها وبذكاء على تجنب البلاد هموم الصراعات وأظهرت نجاح ثورتها. ليبيا ما زالت نوعاً ما بعيد عن مثل هذا الآمر. هذا ما جعل هنالك من يعتقد بأنها في حاجة إلى قذافي جديد. لآن أمثاله هم القادرين على خلق توازن قائم على الرعب. بعد الثورة والتضحيات الجسام مثل هذا التفكير أمر أكثر من مؤسف. لقد ثارت ليبيا من أجل الحرية، الديمقراطية، العدالة، الكرامة، المساواة والتقدم، وها هي تبدو وهنالك من يتأمل أن تدحدر نحو الخلف.

أن يحكم ليبيا الصغيرة، برلمانان، حكومتان وكثيراً من الجيوش والمليشيات شي غريب لا يحدث في أي منطقة من العالم. إن استمرت بهذا الشكل فيحق لها فعلاً أن تسمي نفسها ليبيا العظمي. المشكلة هنا هي أن العظمة شكلية ونسبية. فلا مؤسسات تعمل ولا قيادات تدير، ولا حدود تحمي ولا سيادة تصان. ومعظم المجموعات المتصارعة داخل المدن والقرى الليبية، تعلم بأن البلد يفتقر إلى بنية تحية حديثة وفاعلة وأن الصراع انهك خيرات البلد وغيب الاهداف الحقيقة التي ثار من اجلها كل ليبي وليبية ومات من مات على حساب خروجها من نفق الظلام والتأخر. لو تمكن الشعب الليبي فعلاً من ذلك هنا يمكن أن يتحدث الجميع عن معركة كرامة حقيقة وعن انتخابات حرة نزيهة (2012-2014) تعبير وتجسد فعلاً الرغبة الدفينة لكافة المكونات الليبية الثائرة.

فقط وضع حد للتعنت المتفشي بين كافة هذه المجموعات المتحاربة والتأكد بأن لن يكون هنالك لا غالب ولا مغلوب وأن البلد وشعبة وثرواتها ومستقبل الاجيال القادمة يدمرون رويداً رويدا، يجيب أن يكون أكثر من دافع يدفع الجميع للعمل من أجل منع انزلاق ليبيا فوق الرمال المتحركة، والتي يعلم كل ليبي وليبية بأنها منتشرة على طول وعرض بلاده، والتي بإمكانها أن تبلعهم أن لم يقفوا كجسد واحد.

*كاتب فلسطيني-إسبانيا