يتجه الوضع في ليبيا الى المزيد من التأزم بعد أن إتسعت موجة الإغتيالات والإختطافات لتشمل المناطق الغربية وصولا الى الحدود مع تونس ، هذا الوضع لن يقف عند هذا الحد ، فالأيام والأسابيع والأشهر القادمة ستكشف عن مفاجئات لا تسّر أولئك الذين أندفعوا بكل ما أوتوا من قوة لإسقاط الدولة الليبية في العام 2011 وسفكوا دماء الالاف من الليبيين ورفعوا شعار أن من ليس مع الناتو فهو عدو للشعب وللديمقراطية ومن ليس مع المشروع القطري الأمريكي الإخواني يستحق الحرق ، فإن لم يحرق فله الإغتيال المباشر ، وإلا فله الإعتقال في سجون الميلشيات والتعذيب بسياط الشياطين ،فإن لم يقع في الفخ فله التهجير الى خارج البلاد ، ومن لم يهاجر فله التهجير الى الداخل والطرد من بيته وقريته أو مدينته الى خيام تعبث بها الرياح في الخلاء ،أو التطويق والحصار ، أو التهميش والتجاهل ،وذلك أضعف الإيمان 

وليبيا اليوم أنقسمت الى شعب الناتو المختار والشعب الليبي المظلوم ، فأما من لديه السلاح فهو الحاكم بأمره ،وأما من لا سلاح له فهو الضحية القادمة على الدوام ، وإمتلاك السلاح يحتاج الى غطاء الناتو والأمم المتحدة ،والى مظلّة قطر وتركيا ، والى فتاوى الغرياني وتبريرات طارق متري ، وإلا فلا قيمة له ، 

ولأن ليبيا ثرية ، فكل الصراع على ثرواتها ، وليس مهمّا أن يحكمها مائة ألف صوت إنتخابي ، وهو عدد لا يبتعد كثير ا عن عدد قتلى حرب الإطاحة بالقذافي ، وليس مهمّا أن يستمر فيها القتل والإختطاف والنهب والسلب والتهجير والتهميش ، فالشعب الليبي أخر من يهمّ  القوى الخارجية التي دفعت بها رغبة التشفي والإنتقام من القذافي الى العمل على إقتلاع جذور عقيدة نظامه ولو بإفناء الليبيين بالكامل ،. بإستثناء من يثبت التحليل الجيني أنهم أبرياء من أي نسب قد يجمعهم بالزعيم الراحل 

النظام الليبي السابق كان له سلبيات عدة ، فلقد أحبّ أعداءه وكره محبيه ، ووثق في المتأمرين عليه وخوّن المتعاطفين معه ، وأهتم بالشأن الخارجي على حساب الشأن الداخلي ، وغفل عن تناقضات مجتمعية إنكشفت بعد التمرد المسلّح ، وإعتمد على شخصيات سياسية هشّة سرعان ما تهاوت أمام مصالحها الخاصة ، وفتح باب بيته الثعالب حاسبا أن للثعلب دينا ، وتصالح مع من كانوا يعدون له ساحة الإعدام ، ومارس الكثير من الدروشة خصوصا بمبادرات سيف الإسلام التي تبيّن أنها كانت طريق المخابرات الغربية لإختراق الدولة والنظام ،وطريق المؤامرة لتأسيس موقع لها داخل البلاد 

رغم ذلك صمد نظام القذافي  ،وإستطاع أن يواجه لمدة 7 أشهر حربا عالمية عليه ، شاركت فيها القوى الدولية والإقليمية الكبرى بما فيها واشنطن ولندن وباريس وتل أبيب ، وتداخلت معطيات الصراع بين الثأر لإرث الملكية تحت النزعة الجهوية ، والنزعة العرقية بغطاء الحلم الديمقراطي ، والجشع الرأسمالي للسيطرة على مقدرات الدولة ، والتمرد الحضري على ثقافة القبيلة ، والصراع المعلن والخفي على المصالح في إفريقيا ،وحرب التصفية لمخلفات الحرب الباردة ، والمشروع الأمريكي لإنهاء أسطورة من يقول لا في وجهها 

والنتيجة كانت الورطة التي وقع فيها الجميع 

قبل ذلك فعلوا الشيء ذاته في العراق ، دّمروا الدولة ، حلّوا الجيش ، هجّروا الشعب ، قسّموا المجتمع ، حكّموا الميلشيات ، نهبوا الثروات ، أطنبوا في إبتكار أساليب القتل والتعذيب والتنكيل ، فتحوا باب الإغتيالات على مصراعيه ، أفرغوا البلاد من كفاءاتها ، قتلوا الزعيم ليقتلوا الرمز ، واليوم بعد 11 عاما لا يزال الوضع على ماهو عليه ،بل وساء أكثر : إنهارت العملية السياسية ، كشّر الدخلاء عن أنيابهم ، تعرّت حقيقة المؤسسات البديلة التي أعلنها المحتلّ ، إنفضحت حقيقة الدستور الطائفي ، إستأسد الإرهاب ،تأرنب الجيش الكرتوني ، وبات الحديث عن قتل العراقيين كالحديث عن صيد الذباب 

ما يجمع بين المشهدين العراقي والليبي أكثر من أن يعدّ ويحصى ، بل أن ما حدث في ليبيا كان إمتدادا لما حدث في العراق ، فقد أرسل الحلفاء أبناءهم الى العراق فماتوا ، وقرروا أن يتجاوزوا قتل جنودهم على الأرض بتوفير الغطاء الجوي لمقاتلين عن الأرض ، بعضهم يدافع عن قضية وبعضهم عن عقيدة ، وبعضهم يبحث عن غنيمة ،وبعضهم يقاتل مقابل المال ،وبعضم مجلوب من كهوف القاعدة ، وبعضم جيء به من ظلمات اليأس أو من غياهب السجون التي تم فتحها وتسريح المقيمين فيها 

بعد الإطاحة بنظام القذافي ، كان لابدّ من عقاب جماعي لكل من لم يتحالف مع التدخل الخارجي ، لذلك كان العزل السياسي لأغلبية الشعب بمن فيهم بعض حلفاء الناتو ، وكان التهجير والتهميش وكانت الإغتيالات لقتل كل أمل في بناء الدولة من جديد ، فمصالح الجماعات الأسلامية وأمراء الحرب وقادة الميلشيات وتجار السلاح والمخدرات تفرض الإبقاء على ليبيا ساحة مفتوحة للفوضى بدون قبضة دولة تحكمها ، وتفرض تهميش الأغلبية الساحقة من الشعب حتى لا توجد أياد كثيرة تتنافس على دخل النفط والغاز وحسابات البنك المركزي أو تساهم في الإطاحة بالمشروع القطري التركي الإخواني 

خلال عشرة أعوام سرق من العراق 800 مليار دولار ،نصف هذا المبلغ سرق من ليبيا في ثلاثة أعوام فقط ، في العراق تم بناء جيش طائفي برعاية إيرانية ، في ليبيا تم تشكيل ميليشيات برعاية قطرية ، عندما سأل أحد قادة فبراير أمير قطر : لماذا لا تسمحوا لنا بتشكيل جيش ؟ أجابه : حتى لا ينقلب عليكم 

واليوم باتت أغلب الميلشيات جزءا من الإرهاب أو شريكة فيه ، فإستعمال الدين لحماية السلطة والثروة أمر قديم وليس جديدا ، وتكفير المسلم لتشريع قتله بدأ منذ تم تكفير نظام القذافي والقذافي ذاته وهدر دمه لقتله وهو أسير 

كرنفال الدم في العراق سينعكس على ليبيا ، وكما فعلت القبائل المهمشة في العراق بسبب النظام الطائفي ستفعل القبائل الليبية في مواجهة النظام الميلشياوي ، سيجد المهجرون طريقا للعودة للدفاع عن وجودهم ، وستنتفض المناطق التي تتعرّض لمحاولات إذلال يومي ، حتى من شاركوا في حرب الإطاحة بالقذافي فعلا أو قولا  سيجد عدد كبير منهم نفسه جزءا من المعركة من أجل ليبيا ، فالقضية لم تعد قضية نظام ،وإنما هي قضية وطن في مهب الريح ، إستوطنه الإرهاب ،وقضت المصالح الفردية والحزبية والفئوية على المصلحة العامة فيه 

وبوصول الإغتيالات والإختطافات الى المنطقة الغربية بات على الجميع الإنتباه الى أن ساعة الحسم إقتربت فعلا .