يظهر رئيس النظام التركي رجب أردوغان كل يوم حجم نفاقه ومتاجرته بالقضية الفلسطينية، فبعد سلسلة اعتداءات شنتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي، على مناطق متفرقة من قطاع غزة، وبعد أن استباحت مقدساتهم في ظل صمت مخزٍ من قبل مجلس الأمن والأمم المتحدة، وبعد عشرات الشهداء والجرحى الفلسطينيين ضحايا اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة على قطاع غزة المحاصر، وباقي مدن وبلدات الضفة الغربية التي تئن بدورها تحت القصف الإسرائيلي الوحشي واعتداءات مستوطنيه... بعد تجليات العدوان الإسرائيلي، سارع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى شن هجوم يستهدف إسرائيل! متوعدا ومهددا، من دون الإشارة إلى علاقات أنقرة مع إسرائيل. قال الرئيس التركي، الجمعة 14/05/2021 في خطاب متلفز: إن تركيا بدأت في دعم القدس بنفس التصميم الذي دعمته لأذربيجان في ناغورنو قره باغ... و "نحن غاضبون من نير دولة إسرائيل الإرهابية... لقد تجاوزت إسرائيل كل الحدود... وأضاف الرئيس التركي: "المدن الفلسطينية والقدس... بنفس التصميم الذي دافعنا به عن حدودنا السورية... وبحسب قوله،"إن إيقاف إسرائيل واجب شرف إنساني".

هذا الكلام الناري ليس جديداً، حيث يمارس أردوغان هوايته المفضّلة في المراوغة بالخطب النارية والعبارات الرنانة... والثابت لدينا، أنّ رجب أردوغان طالما استغل القضية الفلسطينية واستثمر فيها من أجل كسب شعبية داخلية وخارجية وتحقيق نفوذ و"زعامة" محلية وإقليمية، مستفيداً من التيارات الإسلاموية التي ترفع لواء هذه القضية وتطالب "بتحرير" فلسطين "شعاراتياً"، مع أن هذه التيارات أساءت كثيراً للقضية الفلسطينية، وساهمت بتهميشها بسبب سلوكياتها المسيئة للإسلام من جهة، ومعاركها المجانية مع تيارات أخرى تدعم هذه القضية، بالإضافة إلى عمالة قيادات ومتزعمي هذه التيارات للنظام الأمريكي، وعلاقاتها الخفية مع إسرائيل والغرب الداعم للدولة العبرية.

إن استذكار التاريخ ليس ترفاً ولا جلداً للذات، لكنه ضرورة قصوى لاستقراء المستقبل، ومسرحية رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان المتجددة عن حالة العداء مع كيان الاحتلال الإسرائيلي وادعائه الدفاع عن مصالح الشعب الفلسطيني باتت أمراً مفضوحاً أمام الرأي العام، تعريه مسألة تزايد التجارة البينية والعلاقات الاستراتيجية التي وصفها مؤخراً رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بالمتجذرة رغم فقاعة العداء الإعلامية. علاقات تركيا مع كيان الاحتلال التي بدأت عام 1949 تضاعفت عشرات المرات مع تولي حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان مقاليد الحكم في تركيا عام 2002 ليعمل الحزب على تعزيز الاتفاقات السابقة مع إسرائيل، غير آبه بتناقض خطابه الذي يظهر حماسه للقضية الفلسطينية، ويبطن تعزيزا للتجارة والعلاقات العسكرية مع الدولة العبرية، لكن ورغم كل الأموال التي ينفقها النظام التركي على الترويج الإعلامي لخلق فكرة وهمية أنه يدعم القضية الفلسطينية والفلسطينيين أكثر من غيره، إلا أن التصريحات الصادرة عن رئيس النظام التركي، تسقط كل الأقنعة وتفضح المتاجرين بالفلسطينيين وقضيتهم. 

فقد أعلن رجب طيب أردوغان، مؤخراً في تصريح إعلامي وبشكل صريح أنه "يرغب في الوصول لأفضل العلاقات مع حكومة الاحتلال، ويبحث عن تطوير العلاقات الثنائية"، كاشفاً عن حقيقة عدم انقطاع الاتصال والتعاون العسكري والأمني بين نظامه ودولة إسرائيل، خلال فترة القطيعة الدبلوماسية، فضلاً عما يمكن استشفافه من مؤشرات التعاون الاقتصادي الذي ارتفع خلال الأعوام الخمسة الماضية بنسبة 21 في المائة. فالشراكة الإستراتيجية مع إسرائيل وصلت إلى أكثر من عشرة مليارات في العام 2020 رغم وباء كورونا، ناهيك عن التعاون العسكري والاستخباراتي والتدريب وتطوير الأسلحة التي يقوم بها جيش إسرائيل لجيش النظام التركي. فنظام أردوغان طالما استخدم التصريحات العاطفية والدينية والقومية لتوسيع نفوذه وتحقيق مصالحه، بما في ذلك استمالة الشعور العربي والإسلامي والفلسطيني بصورة خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، للترويج لنفسه كزعيم إسلامي، وبالتالي يمكن تبرير سلوكه في التقارب مع دولة الاحتلال على أساس الحفاظ على القضية الفلسطينية، وإيجاد تسوية لها، أما ادعاءات أردوغان بأنه يؤيد قضية فلسطين، فليس سوى نفاقٍ وهو يشارك إسرائيل نياتها وأطماعها العدوانية التوسعية ضد العالم العربي. 

الواقع أن أردوغان يلعب على الحبال الإسرائيلية والفلسطينية، أما السجال والملاسنة اللذان يطلقهما من حين لآخر، فلا يمكن تفسيرهما بمعزل عن الشأن الداخلي التركي وتحالفات أردوغان مع تيار "الإخوان" وعلاقته الوطيدة بإسرائيل. أردوغان المتعاون مع إسرائيل عسكرياً واقتصادياً، و"المتضامن والمدافع" عن الفلسطينيين إعلامياً، هو ثنائية فصامية، فهو في علاقته مع الفلسطينيين كمن "يقتل شخصاً ويمشي بجنازته". أردوغان الذي تعده جماعة "الإخوان" خليفة للمسلمين، وهو صاحب العلاقة المثيرة مع إسرائيل، وهو "الصديق العدو" كما وصفه سابقاً الوزير الإسرائيلي يسرائيل كاتس، لصحيفة "معاريف"، مُقتنع بتاريخ طويل من العلاقات التركية الإسرائيلية. تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل وطناً قومياً لليهود، تركيا التي تحتضن اليوم أكبر مصانع أسلحة للجيش الإسرائيلي، بينما المبادلات التجارية بين البلدين مزدهرة، في ظل اتفاقية التجارة الحرة الإسرائيلية التركية السارية المفعول منذ عام 2000. والتعاون التركي الإسرائيلي لم يقف عند التجارة والسوق الحرة، بل وصل إلى التعاون العسكري والسماح للطيران العسكري الإسرائيلي بالتحليق في الأجواء التركية، ويسمح للطيارين الإسرائيليين بالتحليق فوق الأراضي التركية. 

وحتى لا ننسى، فأردوغان صافح رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي السابق الإرهابي "آرييل شارون" في القدس عام 2005، على حين الأخير رحب به بالقول: "مرحباً بأردوغان في عاصمة إسرائيل الأبدية"، من دون أن نسمع أي اعتراض من أردوغان، الذي ملأ أجهزة الإعلام بعنتريات لفظية مخادعة "دفاعاً" عن الحقوق الفلسطينية، أردوغان الذي قبل بالقدس "عاصمة أبدية" من لسان "شارون"، هو صاحب علاقات مع إسرائيل، رغم مهرجان الشتائم، فهو القائل: "إسرائيل بحاجة إلى بلد مثل تركيا في المنطقة، وعلينا أيضاً القبول بحقيقة أننا نحن أيضاً بحاجة لإسرائيل" والواقع يؤكد أن إسرائيل الحليف الحميم لأردوغان، أما الحرب الكلامية وعنتريات أردوغان على الإسرائيليين، وبكائياته على الفلسطينيين، تأتي فقط لكسب الشعبية، وللإرضاء العاطفي للداخل التركي، وخصوصاً بعد مجاهرة أردوغان بدعم جماعة "الإخوان" في بلدان كثيرة، منها ليبيا ومصر وسورية...، فالدور التركي المشبوه، والتدخل السافر في الشأن العربي، امتداد لأطماع استعادة العثمانية مجددا.ً 

وعملياً أردوغان، يستخدم القضية الفلسطينية سواء في حديثه عن غزة أو القدس أو عن مسألة التسوية أو عن العلاقة مع حركة حماس، لأكثر من هدف، أول هذه الأهداف هي شرعيته داخل الشارع التركي، فإن القضية الفلسطينية هي قضية رئيسية بالنسبة للمجتمع التركي، يحاول رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان أن يظهر نفسه بثوب المدافع عن القضية الفلسطينية، وحامي حمى القدس وحقوق الشعب الفلسطيني، ويعلن بشعاراته الزائفة والمضلّلة العداء الشديد لـ إسرائيل ويهدّد بين الحين والآخر بقطع العلاقات معها، ولكنه في الخفاء يمدّ اليد إليها، ويقيم معها مختلف العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية. وعلى الرغم من التصريحات العنترية التي يطلقها أردوغان عن إسرائيل التي يدّعي فيها أنه يدافع عن القضية الفلسطينية، إلا أن الواضح للجميع أنه يقدّم الكثير من الخدمات لدولة إسرائيل، ما يسمح له بتوسيع نفوذه في منطقة الشرق الأوسط ويساعده على فرض انتهاكات بحق الشعب الفلسطيني، وبدلا من إرسال قوات تركية تهدّد أمن إسرائيل قرّر إرسالها إلى سورية وليبيا لمحاربة الجيش الوطني في البلدين. 

واليوم، يستمرّ أردوغان في المسرحيات التي يبدو فيها كداعم للقضية الفلسطينية، كما أن خطاباته الشعبوية بخصوص القضية الفلسطينية لا تختلف كثيرا ـ بحسب محلّلين ـ عن هتافات جماعة الإخوان التي يرعاها أردوغان، ويسعى من خلالها لإقامة خلافة شبيهة بحقبة الاحتلال العثماني للوطن العربي، وفي هذا السياق وصفه وزير الاستخبارات والمواصلات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في حديث سابق، لصحيفة "معاريف" الإسرائيلية بـ "فريمني" أي الصديق العدو، من خلال طموحه بالسيطرة على المنطقة العربية على أجنحة تنظيمات الإسلام السياسي المنبوذة. فالوزير الإسرائيلي يشير إلى أنهم لا يأبهون لعنتريات أردوغان ضدّهم خلال وسائل الإعلام، طالما أن إسرائيل تتعايش مع أردوغان، على الرغم من مسرحياته، وهي تدرك أنه يعدّ نفسه قائد "الإخوان المسلمين" في العالم ويحاول أن يقود العالم الإسلامي. 

خلاصة الكلام: إن المصلحة العليا لأردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" هي المحرك الرئيسي لسياسته الخارجية، وأن البعد البراغماتي في هذه السياسة أوضح من أية محاولة لتغليفه بمنظور معياري ذي بعد أخلاقي، وتعدّ المتاجرة بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني خير مثال على ذلك. فقد أقدم أردوغان على اتخاذ قرارات عدّة في صالح إسرائيل، لتثبيت العلاقة بين أنقرة وتل أبيب، ولهذا فإن ما يبديه من تعاطف مع الفلسطينيين ما هو إلا ذرّ للرماد في العيون، في حين يبرم اتفاقيات مع الاحتلال الإسرائيلي لزيادة التعاون الأمني والعسكري والتطبيع في جميع المجالات.