~~ما حدث في ليبيا تغيير اقرته وحتمه متغييرات السلطة وواقع  الفساد وارتهانات السياسة وتكنولوجيا الحداثة التي بدأت تعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية  وتوزيعها وفق مبادئ واعراف جديدة .. !

تشكل الثورة مرحلة انقلابية ضرورية في مشروع التغيير .. فـبعدما اجازت المجتمعات مخاض التغيير وتكونت نخبة  قادرة على احداث التغيير سواء كانت هذه النخبة واعية بحقيقة التغيير او غير واعية , الا انها تشكل المحرك الفعلي للتغيير في مرحلة الثورة ..  ولعل المراهقات السياسية وكذلك الاخطاء التي ارتكبتها الانظمة السابقة تشكل جزء مهم من  مشروع التغيير , فقد استغرقت حضانة التغيير فترة ركود وفساد طويلة استمرت من 2006 حتى 2011 , صاحبها ضعف النخب وقلة الاماكانات وكذلك شدة قبضة الديكتاتوريات الشمولية وتشرذم فصائل المعارضة وخلافاتها الايدلوجية و دخول قوى الغرب واجهزة المخابرات  وتداخلها مع حيثيات التغيير ..!

التغيير بدأ باهتزازات وتخلخلات عنيفة في منظومة الحكم وحاشية الحكام .. فكانت قضية لوكربي  الوسيلة الايسر لخلق فجوة بنظام ” القذافي ” وصهره أونزع صفاته الفولاذية  .. وكانت اطماع ” القذافي ” وغيره من الحكام ورغباتهم المزدوجة في شخصنة الحكم وثوريته جسر العبور  الاسهل لتجاوزهم ووأدهم .. !

” القذافي “  اراد ثوريت ” سيف ” وظل يعمل لسنوات لتحقيق هذا بشروط قاسية  .. فقد اراد ان يظل الحاكم الفعلي ويكون  وريثه حاكم بالوكالة حتى حين .. ولكن تردد ” القذافي ” والاعتراضات الباردة من قبل ابنائه ودوائره القريبة على وجود ” سيف ” او على اسلوبه كانت قوية بشكل احدث تخلخل واضح بنظام ” القذافي “  .. وكان لغياب ” عبدالسلام جلود ” تأثير كبير وكذلك احدث موت ” محمد المجذوب ” واستقلال رفاق القذافي بمشروعاتهم المستقبلية  وخلافهم معه واستبعادهم تخلخل مبدئي لم يستطع القذافي تعويضه بابنائه او بابناء عمومته المتسلقين لتحقيق منافع مادية امثال ” احمد ابراهيم والكيلاني ” .. .!

لقد كان موسم الغزل الطويل بين ” سيف ” والمعارضين بالخارج عقيماً , فالاتصالات الدورية مع جميع المعارضين بداية باخطرهم  ” خليفة حفتر  ومحمد المقريف ” الي المعارضين الارطب عوداً  مثل  ” العشة  والقريتلي و دوغة و شاكير ” لم تحقق مكسبا للقذافي بقدر ما حققت للمعارضين  .. وظل عدم رضى القذافي بالقليل ورغبته في نومة هانئة  حائل قـلل من اهمية وحيوية موضوع المراجعات التي قامت بها جماعة الاخوان  .. فتراجع الاخوان  عن هذه الخطوة الانقلابية بسبب عدم الثقة المتبادل بينهم وبين نظام القذافي  .. وتكونت ردة فعل اكثر تعقيد واشد وطئة  لتسرب  بعض المعارضين الي الداخل وتجدد نشاطهم الداخلي وانضمام فئة اكثر فاعلية واوسع حراكاً تمثلت في الشباب القادرين على الرفض الصريح وارتكاب فعل الثورة باسلوب علني ..!!

الثورة لا تعدوا لحظة تقدم ” المهدي زيو ”  وتفجيره لبوابة كتيبة الفضيل  .. هذه هي الثورة  .. خلال ساعة واحدة بدأت وانتهت .. .!!

بعد استشهاد ” مهدي زيو ” ودخول الكتيبة بدأت مرحلة جديدة .. فلم يكن بامكان المتظاهرين بعدما حدث التراجع .. فقد بدأ العنف واصبح عليهم ان يستقبلوا عنف انتقامي من قبل القذافي وكتائبه الامنية المتجهة لبنغازي …!

مجرد التفكير بتغيير الموقف كان سيكلف بنغازي الاف الشهداء وسيهدها على رؤوس ساكنيها , وكانت ستتحول الي مدينة اشباح خلال ايام قليلة .. فلم يكن امام جموع الشباب في بنغازي وأؤلئك القادمين من البيضاء ودرنة الا استكمال  مشروع التغيير حسب الواقع الذي فرضه القذافي على جموع الليبيين .. فكانت البندقية وسيلة التغيير الاكثر رواجاً وصلاحاً ..!

بالتوازي مع موقف الثوار كان على ” القذافي ” ان يختار اما خروج سلمي يضمن حياته بدل ضمان حكمه او المواجهة المسلحة التي فرض بدايتها وجند لها مريديه وحرك لها جيشه وكتائبه .. الا ان  اختلال ميزان القوى واتساع رقعة الصراع المسلح والاستغاثات الانسانية التي ارتفعت داخل مقر الامم المتحدة من قبل اعضاء الوفد الليبي  .. ونداء ” الدباشي ” لقوى العالم  ومطالبتها بضرورة التدخل  قلب الموازين واحدث ارتباك كبير في نظام القذافي ..!

كان غياب ” شلقم ” عن حضور الجلسات  وانقطاع اتصالاته بالنظام  واستكانة ” موسى كوسا “  باعتباره وزير الخارجية  للواقع واستسلامه الضمني للتغيير الذي يقوده شباب برقة وشباب طرابلس  في ذات الوقت .. وتلك اللحمة الواعية التي سرت وانتجت المجلس الانتقالي لتوكل له مهمة ادارة التغيير .. وصيانة مكتسباته وانفتاح افاق الدعم في كافة انحاء العالم  دلائل صريحة لنهاية القذافي منذ البداية .. ولكن  ..!

آلا عيب السياسة واكاذيب الاعلام اكلت الرؤوس واوهمت الكثيرين بامكانية انتصار القذافي  بالقوة او بالمال , وكلفت ليبيا اثمان باهظة ودماء كثيرة , ونثرت بتلك الاشهر بذور شيطانية لتوليد الصراع ونشر الخلافات بين ابناء الوطن الواحد , فنشرت الشظايا التي طالما كانت مخابرات القذافي تكتمها بقوة البطش والارهاب , وسكبت على رؤوس الطيبيين سلال القضايا الاقليمية والعربية والمحلية واشعلت فيهم الدوار بعدما ايقنت بحدوث الشقاق بسبب مقاومة القذافي وكتائبه للتغيير وخوضهم للصراع باسلوب دموي لا يمكن ايقافه الا بعنف مضاد , فتحولت الثورة الي ظاهرة اجتماعية ذات انساب وانتماءات مناطقية سلبت صفاتها الاصيلة وألبستها اثواب النزاعات الاهلية  الموروثة وذات الطابع الايدلوجي البدائي ..!

انتهى ” القذافي ” كما لم يتوقع احد .. واينعت بذور الخلافات وآتت أكلها .. واصبحت واقعاً سياسياً معاشاً .. وكان ضعف المجلس الانتقالي وسوء سياساته واتسامه بعدم الشفافية  وسائل طمس لاهداف الثورة وتغيير لمسارها , كما هي وسائل توليد لطوائف وتكتلات غائية مؤدلجة ومبرمجة لخدمة مشروعات اقليمية مضادة لايدلوجيات البناء المحلي لدولة مثقلة بالاستحقاقات وتتسم بواقع سياسي / اجتماعي مغاير لما يحوطها .. جعلها الفراغ السياسي وجهل النخب تهدر هويتها وتكستح ارصدتها واموالها دون تحقيق أي تغيير تنموي او حلحلة لمشكلاتها ..!

الليبيون شعب مسالم .. مرتهن منذ اجيال الي املاءات واعراف اجتماعية مقيدة لحراك المدنية وتطورها , كما هي مضادة للتغيير ومستجدات السياسة .. وضرورات انصياعه القسري للتغيير تستوجب جراحات دقيقة وحذرة لتمزيق نسيجه الاجتماعي الراهن  واعادة توزيع مفرداته وتكتلاته الاجتماعية وفق نسق براغماتي يناسب اهداف التغيير ويحقق انماط العدالة وحقوق الانسان ويسهم في تطوير النخب وتمكينها من ادارة التغيير ومواكبة ظواهره السائدة .. وان لم تتمكن قوى التغيير من تمزيق النسيج الاجتماعي الراهن فسيكون عليها الخضوع لحقائق الواقع وتوزيع السلطات وفق بناء فيدرالي يحقق النمو ويقلل من الاحتكاكات السلطوية الموجبة للنزاعات نتيجة المرجعية الاجتماعية للقوى وتقاربها القيمي  ..!

الانسياب السلس للسلطة وانتقالاتها السلمية ليست دليل نمو حضاري لما يشوب هذا الانسياب من فساد فاضح .. ولما يصحاب الانتقالات السلمية من اهتراء في بنى المؤسسات وتضعضع في مستوى الكفاءة بالنسبة لنخب السلطة , كما ان مجانبة العدل ومناقضة مفاهيم الحقوق وانعدام الشفافية وازدواجية المعايير وانفلات السلطة وسطوة  وكلائها والتناقضات الرهيبة بين اداء المهام وفقدان الادوات  دلائل صريحة على غياب المشروع الوطني واندثار الاستراتيجيات المستقبلية .. فلايمكن بعد مرور ثلاث سنوات ان نعايير الاحداث السياسية بمعايير الثورة .. كما لا يمكن المجازفة بالمستقبل أو بوحدة الوطن لارضاء سلطة فاشلة وعاجزة عن تقديم براهين نزاهتها ووطنيتها وصدق غاياتها ونقاء توجهاتها وجودة مفرداتها ..!

تشوه السلطة المتمثلة في المؤتمر الوطني والحكومة واتسامهما بالفساد ونمو رفض الجموع لاستمرارهما له مبررات تبدأ بالهدر العلني لثروات الشعب الي تردي مستوى الخدمات وانفلات الامن وعدم قدرة السلطة على توفير ضمانات حقيقة لسيادة الشعب على مقدراته بسبب تقاعص السلطة عن وضع استراتيجيات وطنية لضمان امن الحدود وتحقيق سيادتها دون اشراك اطراف خارجية تؤثر ضمناً على استقلالية السلطة والسيادة الوطنية , كما تؤثر على الهوية السياسية وتوجهات الرأي العام ..!

المال يحكم دائماً ..!

لا يمكن تحقيق النماء او الاستقرار ما لم تتمكن القوى الاقتصادية الوطنية من بسط نفوذها على السلطة , وكما ظهر تأثير واملاءات المال السياسي جلياً  في احداث التحرير وفي قرارات المجلس الانتقالي ومن بعده المؤتمر الوطني  .. وصيغت خرائط المستقبل وفق شروط تجار السلطة بالوكالة صار لزاما على القوى الاقتصادية الوطنية ورجال الاعمال الليبيين احداث التغيير بسطوة المال وتحرير الدولة من الارتهانات السياسية المكلفة وتهذيب الحراك السياسي باضعاف المؤثرات الخارجية واقصاء الدخلاء او وكلائهم بالداخل , واعادة هيكلة السلطة وضمان شفافيتها بتوحيد جهود القوى وتغييب المستوردين للايدلوجيات او الربحيين من تواجد السلطة ..!

جشع السلطويين للمال واتسامهم بالفقرين المادي والسياسي ساهم في تبديد ثروات الشعب كما ساهم في ازدياد تأثير القوى الخارجية .. لذا ينبغي الدفع الي تسليم السلطة الي جهابذة الاقتصاديين والملاك الوطنيين وتفويض رجال الاعمال الليبيين بتصميم العلاقات وتنمية المجتمع ورفع المستوى الاقتصادي وتحريره من التعبية , ومنحهم اليد الطولى في البلاد وتقييد ايادي السلطة الي توجيهات وخططهم  ..!

كاتب ليبي