في خطوة تحمل الكثير من الدلالات؛ اجتمع الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع نظيره الكوبي راؤول كاسترو يوم السبت الحادي عشر من إبريل 2015، في أرفع محادثات بين البلدين بعد أكثر من ثلاثة وخمسين عاما من العداء الأمريكي لهذه الجزيرة الصغيرة، جرت خلالها الكثير من المحاولات الأمريكية الجدية لإسقاط النظام الاشتراكي في كوبا.

سلوك حاكم

وإذا كانت تلك المحاولات لتغيير النظام قد فشلت في كوبا؛ إلا أن هذا السلوك الأمريكي كان سلوكا حاكما ليس بالنسبة لكوبا فقط ؛ وإنما لكل دول أمريكا اللاتينية؛ كما تخبرنا بذلك التجربة التاريخية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الدول ، وهو أن واشنطن عملت وفق هذه العقيدة؛  على التخلص من النظم السياسية المناوئة لسياستها الخارجية، باعتباره حقا لها . ويذكر الأستاذ كازانوفا، مدير جامعة المكسيك السابق، أنه بين سنة 1800 وسنة 1969 تدخلت الولايات المتحدة 784 مرة تدخلا سياسيا لغرض مصالحها في أمريكا اللاتينية، منها 65 مرة في عهد الرئيس جونسون .(1)

وإذا ما أخذنا كوبا مثلا، لتوضيح سياسة واشنطن تجاه القارة اللاتينية ، نجد أن القوات الأمريكية  احتلت كوبا سنة1898، بعد طرد القوات الأسبانية منها، ولم ترحل القوات الأمريكية (عام 1902 ) ؛ حسب الاتفاق، إلا بعد أن نصت كوبا في دستورها على حق الولايات المتحدة التدخل في كوبا، كلما رأت ذلك ضروريا (مبدأ مونرو) ، وكان من نتيجة ذلك أن تدخلت الولايات المتحدة في كوبا ثلاث مرات لحماية الاستثمارات الأمريكية الخاصة في الجزيرة، والتي بلغت نهاية الحرب العالمية الثانية حدودا طائلة فأصبحت الاستثمارات الأمريكية تمتلك 80% من المرافق العامة، 40% من مزارع السكر، و90% من مصادر الثروة المعدنية ، كما أصبحت الولايات المتحدة هي المستورد الرئيسي  للسكر الكوبي، الذي كان يعتبر السلعة التصديرية الأولى لكوبا .(2)

وهذا السلوك التدخلي برز بصورة واضحة مؤخراً في الحالة الفنزويلية، وهذا للأسف هو الفهم المستقر لما تعتبره الولايات المتحدة الأمريكية ليس مصالحها وحسب؛ بل حقها الثابت ، ولذلك اعتبرت واشنطن على الدوام أن تدخلها في أمريكا اللاتينية هو مسؤولية أمنية لها؛ وشأنا داخليا، بصرف النظر عن سياسات دول القارة ، والمثل الصارخ والفج على ذلك،  يكشفه تعليق الرئيس الأمريكي كالفين كوليدج الرئيس الثلاثون للولايات المتحدة الأمريكيةبالفترة من 1923 - 1929  (3) على التدخل العسكري في نيكاراجوا في عشرينيات القرن الماضي، بقوله "إننا لا نعلن الحرب على نيكاراجوا، تماما كما أن رجل الشرطة في الشارع لا يعلن الحرب على المارة .أي أن الولايات المتحدة ترى أن من حقها ممارسة دور بوليسى فى القارة".(4)

وعلى هذا الأساس بات من الخصائص المميزة لسياسة الولايات المتحدة إزاء أمريكا اللاتينية هو ميلها لتوسيع هامش أمنها السياسي في القارة، والتدخل الفعال لتأمين هذا الهامش، كونها ترى أن تدخلها في أمريكا اللاتينية يعتبر مسئولية أمنية للولايات المتحدة، وهي لا ترى أنه يتعارض مع سعيها لإيجاد علاقة قوامها المشاركة المتبادلة بين الأمريكتين ، وتأكيد الدور التنموي للولايات المتحـدة في أمريكا اللاتينية.

أي تغيير ؟

ولذلك يبدو ملفتا وصف أوباما المحادثات مع الرئيس الكوبي راؤول كاسترو بأنها "تاريخية" ، وأن البلدين بإمكانهما إنهاء عداء سنوات الحرب الباردة، وخاطب كاسترو على هامش قمة الأمريكتين قائلا "نحن الآن في وضع يسمح لنا بالمضي قدما نحو المستقبل...عبر الزمن من الممكن لنا أن نطوي الصفحة ونطور علاقة جديدة بين بلدينا."( 5)  ، والرئيس الأمريكي بذلك يتجاهل أن كوبا كانت هي الضحية بامتياز للسياسات الأمريكية خلال تلك العقود من حرب التجويع والحصار.

 والسؤال هنا، هل هذه الخطوة مرتبطة بتغيير جوهري في العقل السياسي الأمريكي، فرضتها المتغيرات الدولية، والتي نتج عنها وفق عوامل موضوعية عالمية من جانب؛ وذاتية تتعلق بدول أمريكا اللاتينية من جانب آخر؛ تراجع في القدرة الأمريكية على التحكم في مصائر دولها؛ على ضوء التغيير الجوهري الذي تعيشه أمريكا اللاتينية، لجهة تعاظم دور الأنظمة التي أفرزتها إرادات شعبية لديها الكثير من عدم الثقة في السياسة الأمريكية على ضوء التجربة التاريخية أو المعاشة التي اكتوت بها؟.

ومن ثم هل يمكن القول أن ما جرى هو تغيير، في "تابوات" السياسة الأمريكية الممتدة في أمريكا اللاتينية؟، أم أنها مجرد نوع من أشكال العلاقات العامة أو ( الاحتواء اللين ) ، لا يتعلق بجوهر السياسة الأمريكية التي  كان قد حددها مبدأ مونرو منذ عام 1823؟ أي قبل قرنين تقريبا والمستقرة في العقل السياسي الأمريكي، والذي جعل من أمريكا اللاتينية التي  تنقسم الآن إلى 33 دولة مستقلة ً و 13 وحدة سياسية أخرى. وتغطي كل المساحة التي تقع جنوب الولايات المتحدة الأمريكية وتشمل كلاً من المكسيك وأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية وجزر الهند الغربية.(6) ،  بمثابة حديقة خاصة بالولايات المتحدة ، عنوانها الهيمنة على مقدرات تلك القارة ، والتحكم في خيارات شعوبها؛ وتسخيرها في خدمة المصالح الأمريكية ، حتى لو كانت على حساب مصائر تلك الشعوب.

هنا وبعيدا عن أي حسابات للتفاؤل أو حتى الشك في النوايا جراء هذه الخطوة ، من المفيد أن نستحضر ما قالته هيلاري كلينتون عندما كانت وزيرة للخارجية ؛ والتي ربما تعود كرئيس للولايات المتحدة بعد ترشحها للانتخابات الرئاسية لعام 2016، وهو أنه " يمكن للموقف أن يتغير، لكن المصالح الوطنية ستظل ثابتة".(7)، وكون  العقل السياسي الأمريكي مسكون بالنرجسية المعززة بقدرات عظيمة اقتصادية وعسكرية باعتبارها القوة العظمى المطلقة كما ترى نفسها، ومن  الطبيعي والحال هذه أن تتمسك الولايات المتحدة بما تعتبرها مصالحها الوطنية في أمريكا اللاتينية عبر الحفاظ على سيطرتها في المنطقة، كما سبق أن لخصت ذلك عقيدة مونرو "أمريكا للأمريكيين .'وبالطبع ليس في الاتجاهين ولكن في اتجاه واحد.

وهي العقيدة التي ترجمتها الولايات المتحدة منذ ذلك الحين عبر سياسة العصا الغليظة، التي شكلت التجلي العملي لمبدأ مونرو في سياستها الخارجية تجاه دول أمريكا اللاتينية، وذلك من خلال إعمال حق التدخل المباشر في كافة القضايا والمشكلات التي تمر بها دول المنطقة" (8)

وتبقى الشكوك

غير أن المفارقة هنا أنه في الوقت الذي تقترب فيه الولايات المتحدة من تصويب علاقتها مع كوبا  بإظهار وجه جديد لواشنطن، تجاه دول القارة عبر دعوة الشراكة المتكافئة، إلا أن التوتر من جانب آخر يزداد مع فنزويلا؛ بحيث تظل حالة الشك في السياسة الأمريكية قائمة ؛ رغم ما يجري الآن من محاولات من قبل الإدارة الأمريكية، لجسر المسافات مع دول القارة، ولا شك أن ما عبر عنه الرئيس الفنزويلي مادورو في المؤتمر الأخير لدول أمريكا عندما خاطب الرئيس الأمريكي قائلا : "إنني أحترمك ولكنني لا أثق بك "، إنما يعكس حالة من عدم اليقين في نوايا واشنطن، وهي عدم ثقة تراكمت عبر عشرات العقود من السياسة الأمريكية في القارة اللاتينية، التي اصطدمت بها كل الدول التي أبدت نزوعا نحو سلوك سياسة داخلية وخارجية مستقلة تعبر عن مصالحها كما تراها هي، غير أن هذه السياسة وُوجهت بموقف أمريكي مناوئ، وأقرب مثال على ذلك فنزويلا، الذي وصل الأمر فيها حد التدخل عبر مجموعات محسوبة على واشنطن لقلب نظام الحكم.

ومع ذلك فإننا نقدر أن من  أحدث هذا التغيير، حتى ولو في جانبه الشكلي هو صمود كوبا في وجه الحصار ومحاولات العدوان المباشر لأكثر من خمسة عقود، وبالتأكيد هذا ما كان ليتم بدون حالة النهوض التي تعيشها أمريكا اللاتينية بشكل عام، وانفتاحها على فضاءات أخرى، شكلت ثقلا سياسيا واقتصاديا عززته تجارب شعبية ديمقراطية ناجحة، لم تقف عند سحب كل الذرائع من واشنطن حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل بدأت تشق مجراها باعتبارها نموذجا يحتذى من قبل دول العالم الأخرى.

وأخيرا.. نعم أقدم أوباما على هذه الخطوة الجريئة، لكن هل من ضمانة لوصول هذه الخطوة حتى نهاياتها؟ أم أن اليمين الأمريكي سيعيد الأمور إلى المربع الأول في حال وصلت إدارة جمهورية متشددة  إلى البيت الأبيض؟ وحتى ذلك الحين ؛ هل يمكن القول أن العين انتصرت على المخرز ؟

هوامش

(1) الأهرام الرقمي ـ السياسة الدولية )

(2) السابق

(3) ويكيبيديا ـ الموسوعة الحرة

(4) الأهرام الرقمي ، السياسة الدولية

(5) وكالة رويترز

(6) ويكيبيديا ـ الموسوعة الحرة

 (7) وكالة أنباء شينخوا

 (8) مجلة السياسة الدولية العدد 150- أكتوبر 2002

 

 الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة