تابعت كما تابع غيري الحوار التليفزيوني الذي أجرته قناة « ليبيا الدولية » مع احمد قذاف الدم السياسي والديبلوماسي الليبي الذي شغل وظائف عدة منها مهمة المنسق العام للعلاقات الليبية المصرية والمبعوث الخاص للزعيم الراحل معمر القذافي ، وربما من ألطاف الله أن الإخوان فشلوا في نقله من القاهرة الى طرابلس ليكون مع عشرات المسؤولين السابقين القابعين حاليا في سجون الميلشيات الخارجة عن القانون داخل العاصمة المخطوفة من  عصمة الشرعية

أهم ما  شدني في حوار قذاف الدم أنه إعتمد مرّة أخرى على خطاب العقل في الدعوة الى الحوار الذي هو وكما سمّاه حرب بلا سلاح ، فليبيا تتجه نحو الضياع وقد يتم إحتلالها من جديد ، بمعنى قد تتدخل قوات خارجية بدعوى مكافحة الإرهاب وحماية منابع الطاقة لنجد أنفسنا أمام أفغانستان أخرى أو عراق جديد ، فليبيا محل أطماع الغرب والشرق ، وهي دولة ساشعة وثرية وعدد سكانها قليل وتحتل موقفا جاذبا في بوابة افريقيا وعلى الضفة الجنوبية للمتوسط ، ومن يضع يده ليبيا يمكن أن يضع يده على منطقة الساحل والصحراء ، ويؤثّر في مصر وتونس والجزائر ، ويتربع على ألفي كلم من الساحل الجنوبي للمتوسط أي قبالة أوروبا بما تعنيه في قاموس السياسة والإقتصاد والعسكرية

والحوار الذي دعا إليه قذاف الدم ليس حوارا من أجل عودة العمل بالكتاب الأخضر أو رفع راية الرسول الخضراء ، وإنما لما هو أهم وهو تحرير ليبيا من خشية الإحتلال ، والمصالحة الشاملة ، والعفو العام ، وعودة المهجرين الذين يمثّلون نصف ثلث الشعب ، وإنقاذ ما بقي من ثروات ومقدرات أهمها الإنسان ذاته ، ثم يمكن بعد ذلك أن يقرر الشعب ما يريد من خلال إرادته الحرة ، يمكن أن يختار العلم الذي يريد ، والنشيد الرسمي الذي يبتغي ، وشكل النظام الذي يروق له سواء كان جمهوريا أو جماهيريا أو ملكيا ، لأن في حال ضاعت البلاد فإن كل الأحلام ستضيع ،وكل الأصوات ستذهب سدى ، وكل الثروات ستتعرض للتبديد ،

سيقول الخضر أي المتمسكون بالراية الخضراء  والنظام الجماهيري أن ذلك يعني تنازلا من قبل قذاف الدم ، ولكن ما البديل ؟ هل تستطيعون تغيير المشهد ؟ إذا قلتم نعم فلماذا لم تفعلوا شيئا الى حد الأن ؟ من يتحمل معاناة المهجرين في الخارج وأغلبهم من الفقراء والمصابين ؟  وعذابات الأسرى في سجون الميلشيات وعذابات المطرودين من ديارهم في الداخل ؟ ومن يوقف الدواعش وهم يتمددون في غرب البلاد وشرقها ؟ ومن يواجه زحف المتطرفين والإرهابيين من الداخل والخارج ؟ ومن يعيد التماسك الى البنية المجتمعية المهددة بالتمزق ؟

بل ولماذا لم نسمع منذ أكثر من ثلاثة أعوام عن عمليات مقاومة نوعية لتحرير الأسرى من داخل السجون ولضرب الميلشيات المسلحة في العمق ؟

وكيف تعرضت قبائل شريفة وأصيلة كبني وليد وورشفانة والعجيلات والقذاذفة والفرجان وترهونة والمشاشية الى ما تعرضت إليه في ظل غياب ردة الفعل الجماعية ؟

البعض لا يزال يتحدث عن الزحف القادم والجيش المعدّ للمواجهة والقائد الذي لم يستشهد وخميس الذي يستعد ليوم الفصل وكل ذلك كلام بلا معنى سبق وأن جرّبه العراقيون برسائ المقاومة وشعارات البعث وخطب عزت إبراهيم الدوري الذي أنتهى أخيرا مبايعا لخليفة داعش

وحتى لا يحدث لليبيا ما حدث للعراق ، ولأن ليبيا دولة موحدة في الأصل ، فإن الحل في الحوار ، فإن لم ينفع الحوار فالحل فيب تحالف القوى الوطنية من الطرفين بدون شروط مسبقة أو شعارات مسقطة لأن المرحلة القادمة تتطلب أن تكون أغلبية ليبيي الداخل والخارج على قلب رجل واحد لفرض الحل الوطني والمشروع الوطني عبر الحوار الوطني بين الجيش والبرلمان والقبائل الشريفة والنظام السابق بعيدا عن فبراير وسبتمبر ، وما سبق وما لحق

لقد كانت دعوات قذاف الدم للحوار ورفع الراية البيضاء وتجاوز الشعارات الفضفاضة رسالة سياسية بإمتياز من رجل لا يزال يمتلك علاقات دولية وإقليمية تؤهله للقيام بدور ريادي في حل الأزمة ، وعلى الجميع أن يتفقوا على مشروع جامع بينهم في إطار التوافق الوطني والمصالحة والعفو ، لأن الخلاف اليوم لا يفيد خصوصا عندما يكون  على أنقاض وطن منهار ، ولكنه سيفيد بعد عودة ليبيا لأهلها ومواطنيها المؤمنين بها والخائفين عليها والمدافعين عنها

أن حديث قذاف الدم هو حديث العقل ولكنه لا يخلو من العاطفة كذلك ، وظهور قذاف الدم بزيه التقليدي في حواره مع ليبيا الدولية حمل أكثر من معنى ورمزية فالرجل لا يزال على عهده ووعده ومبادئه ولكنه يعرف أن السياسة شيء والخطاب العقائدي شيء آخر ، السياسي يبحث عن النتيجة والعقائدي يدافع عن قناعات شخصية وذاتية ، والتاريخ لا يحاسب العقائديين على شرف الأنتماء الى فكرة أو مبدأ وإنما يحاسب السياسيين على فشلهم خصوصا إذا تسببوا في ضياع الوطن

ولا أحسب أحرار ليبيا وشرفاءها يختارون لوطنهم الضياع