جاء شتاء العام 1979 قاسيا على أفغانستان, حيث تهاطلت الثلوج بغزارة ثقيلة لم تعرفها البلاد منذ عقود, متزامنة مع نجاح خطة أمريكية سرية لاستدراج الدب الروسي الى المستنقع الأفغاني المجاور للمياه الدافئة التى يحلم الروس منذ رحيل القياصرة 1917 بالسيطرة عليها أقترابا من تحقيق مشروع أوراسيا ( أوروبا وآسيا ) فى مواجهة المشروع الرأسمالي.

وقف زبينغيو بريجنسكي مستشار مجلس الأمن القومي الأمريكي فى أدارة جيمي كارتر في مطلع العام 1980 يذرف الدموع فى بيشاور الباكستانية ( كان يحكم الباكستان  حينذاك الجنرال ضياء الحق ) وهو يسرح البصر على أمتداد حدودها مع أفغانستان معربا عن شديد تأثره البالغ لمعاناة الشعب الأفغاني المسلم تحت الأحتلال السوفياتي الألحادي .. وتحدث عن الأسلام وكأنه أمام مسجد وعن المسلمين وكأنه من أحفاد صلاح الدين.

في السابع من مايو 1250 رحل الملك ( لويس التاسع ) رحل من ميناء دمياط , بعد شهر من الأعتقال بدار أبن لقمان بالمنصورة عقب خسارته الحربية على ضفافها .وبعد تقديم فدية ضخمة له ولزوجته وأبنه الذي ولد أثناء الأعتقال ولجنده تقدر بعشرة ملايين من الفرنكات الفرنسية, اتاحت له فترة الأعتقال التفكير العميق في أسباب الهزيمة التى مني بها , وخلص الملك الى تعليقات عرفت بوصية لويس التاسع منها على سبيل المثال  ما نصه (( اذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده, فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح. ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن قوتهم)).

أدعو القارئ الكريم الى التفاعل معي فى ربط الأحداث ولضم مفاصلها وصولا الى قراءة مشتركة تقودنا الى بناء وعي لا يتوكأ فقط على الأعتقاد بنظرية ( المؤامرة ) ولكن لمواجتها معرفيا وتأسيس ما يمكن وصفه بمصفحات الهوية التى لا تحتقر الآخر ولا تستجيب لضغوطه السياسية والاقتصادية الخ .. هوية منفتحة بقدر أعتزازها بمكونها المرجعي. وأتابع معك أيها القارئ الكريم ..

قليلة هي الكتب والمتابعات التى خصصت للبحث فى كنه وماهية ( نادي بيلدربيرغ) وهو أحد المراكز المغلقة والتى تبحث بشكل سري تماما فى شؤون العالم, من بين هذه الكتب ما أصدره الأمريكي دانييل استولين فى النصف الأول من الألفية الثالثة ( القصة الحقيقية لنادي بيلدربيرغ) و أردفه بالكتاب الثاني ( أسرار نادي بيلدربيرغ).. ويخلص الكاتب فى متابعاته الى أن النادي ولأكثر من (( خمسين عاما من الأجتماعات __ يعقد أجتماعا سنويا ويمكن اجتماعين أضطرارا__ , ولم يحصل أن تسربت ولو معلومة واحدة حول المواضيع والقرارات التى جرى أتخاذها . ولكن المراقب للأحداث وتطورها عقب كل أجتماع يقود دائما للاستنتاج الذي ثبتت صحته فى معظم الأحيان )).. ومنذ فترة أنشأ النادي موقعا على الشبكة العنكبوتية يجمل بعض المواضيع التى يستعرضها في لقاءاته .. ومن بينها الديمقراطية في الشرق الأوسط . والتحديات الداخلية فى الصين , الاقتصاديات الطالعة بين المسؤليات والوظائف, التطور التقني في الأقتصاد الغربي جمود أو وعود , تحديات الأتحاد الأوروبي , روسيا بوتين عودة القلق .

يتشكل أعضاء النادي من بعض رؤساء الدول (في أوروبا وأمريكا الشمالية) وبعض رؤساء الوزارات ووزراء المالية والأقتصاد  ورؤساء الشركات والمصارف العملاقة وعدد من  الجنرالات والخبراء والأختصاصيين فى مجالات مختلفة , وهو حكر على الأوربيين والأمريكان فقط .. وفي 1973 أعلن رئيس مصرف تشيس مانهاتن ديفيد روكلفر بأستشارة ضاغطة زبينغيو بريجنسكي تشكيل ما يعرف ب((اللجنة الثلاثية)) _ أمريكا . أوروبا . اليابان _ وحدد بريجنسكي أهداف اللجنة بأنها في تنفيذ خطط وبرامج مجلس العلاقات الخارجية ( الأمريكي ) لخلق الحكومة العالمية الموحدة أو ما أصطلح على تسمية جنينه الفكري بالعولمة .. ويقول فى هذا الصدد في كتابه دور أمريكا في عصر التكنولوجيا الألكترونية : ان اعلان سيادة السلطة القومية لم يعد مفهوما أو مقبولا , التحرك صوب مجتمع أكبر من قبل الأمم المتطورة والمتقدمة, من خلال عدد من الروابط غير المباشرة بالاضافة الى تجديدات متطورة تتسق مع السيادة القومية .. وبالرغم من أن هدف تشكيل مجتمع من الأمم المتقدمة هو أقل طموحا من هدف الحكومة العالمية الموحدة ولكنه الأكثر امكانية .

كان بريجنسكي يقول دائما بعدم جدوى الحرب المباشرة مع السوفيات الذين يعتبرهم العدو الأول للغرب . وقام بالتنظير فى المواجهة الى خلق تحديات تواجه الدب الروسي على الأطراف وأن تكتفى أمريكا بالدعم اللوجستي والسياسي والأعلامي وهي جالسة على مقاعد المتفرجين , كان يدرك أن الروس هم من صد أكبر ثلاث موجات تدميرية ( التتار , نابليون , هتلر ) وأن أية حرب مباشرة معهم ستكبد الطرف الآخر خسائر لا يمكن تحديد أرقامها الفلكية .. ومن هنا بدأ الأستدراج الى جبال كابول وكهوف قندهار وأنفاق تورا بورا ليبدأ مسلسل التراجع الأنهياري فى أتحاد الجمهوريات السوفياتية .

ومباشرة تحول النظام العلماني فى ايران الى نظام أسلامي . ونجحت خطة أستدراج صدام حسين للصدام مع النظام الجديد فى طهران , وقبلها أتفاقية كامب ديفيد وتسهيل السادات للجماعات الأسلامية الخروج من الظلام الى النور لمساعدته فى أجتتاث الناصريين واليسار بوجه عام وأنتهت بمصرعه على أيدى  من أطلقهم على الناس .. خروج السوفيات من أفغانستان ( 1988-1989) كان الأب الشرعي لظهور نقابة تضامن البولندية التى قادها عامل الكهرباء ليخ فاونسا فى ميناء غدانسك البولندي ونجاحها في أسقاط حكم حزب ( العمال ) , لتكر السبحة في باقي دول المنظومة الشرقية وتتداعى للسقوط فى تمظهر عصري للعبة الدومينو.

كان بريجنسكي من الأعضاء الفاعلين فى نادي بيلدربيرغ ومن المؤسسين للجنة الثلاثية التى نحتت مصطلح الفوضى الخلاقة الذي سوقته كونداليزا رايس فى 2005 بهدف أشاعة الدمقراطية وحقوق الأنسان الخ الخ من شعارات عملت الولايات المتحدة عبر شبكة منظمات التدريب على تأمين مجموعات كبيرة من شباب الوطن العربي للحصول على تدريب كاف لمواجهة الأستبداد وتكريس الدمقراطية وهو ما أنتج ما يعرف بالربيع العربي .

لاحقا  أتابع معك أيها القارئ ملحمة الخراب التى أبتكرتها أمريكا للسيطرة على العالم .. حتى وهو على حافة الدمار .

نقيب الصحفيين الليبين - سابقا 

[email protected]

فيلم أمريكي طويل : مسرحية للفنان زياد رحباني