كلما وقع حادث هنا وهناك يتفاعل العالم بأسره مع الحدث سواء بالإيجاب أو السلب، لكن الأمر يستحق التمعن أولا و يستحق اتخاذ مسافة ثانيا ، كل هذا التوجه العقلاني أمام الملف المطروح أمامك ينهار ، أمام تسونامي من التعاليق العنيفة والمواقف المتسرعة ،لدرجة يصعب معها اتخاذ موقف فيه مسافة أمان موضوعية ،تكفي للاتزان واتخاذ موقف رصين وتكوين صورة متكاملة حول مسارات الحدث  ومستوى التأثير على المستوى القريب والمتوسط والبعيد .

إلا انه أمام حادث شارلي ايبدو والذي افرغ من حمولته وشحن بمواقف فوق طاقته ،كحادث فردي قد يقع في أي دولة "مادام لم تحدد أي جهة مسؤوليتها على الحادث، كمثيله بكندا واستراليا ولما لا نضيف حادث اسلو  ،الذي أيضا كان حادثا بمرجعية ثيولوجية" ومادامت الحدود تتماها وتسقط واحدة تلو الأخرى ،حيث لم تعد قيمة المجال واضحة ومحددة الأبعاد .

يبدو أن مسئولي الاليزيه إما بهذا الذكاء السريع لاستغلال الحادث بهذه السرعة ،أو إن مخرجات الرئيس الفرنسي لم تكن موفقة وبالتالي انزلقت فرنسا للمستنقع الأمريكي مرة أخرى، وهي التي كانت تجعل أجنداتها الدبلوماسية على مسافة أمان مع الأجندات الأمريكية بالمنطقة ، يكفي أن تسمع عبارة " انه 11 سبتمبر الفرنسي"  أو" لن نخرج من العراق " ليسقط العديد من التكهنات ،حول تيه ساكنة قصر الاليزيه وعدم قدرتهم على استبيان موقف واضح ايجابي للمصالح الخارجية الفرنسية.

  • أولا الحادث المأساوي مؤسف لكن لم يفاجئني ،على اعتبار تشديد الخناق على الراغبين في الالتحاق بالدولة الإسلامية بسوريا والعراق ، لن يؤدي لا محالة إلا إلى انفجار هذه القنابل البشرية في دول "المقام الأوروبي "، وبالتالي المقاربة الأمنية سوف تكون على المحك خصوصا وان الموقف السياسي الفرنسي، المتناقض في حد ذاته (دعم الاكراد ومسيحي العراق وتجاهل المعارضة السورية المعتدلة ) اذكي مشاعر الكره ،خصوصا و تعدد بؤر التدخل مالي، ليبيا ،سوريا ،العراق ، افريقيا الوسطى ،هذا يعني أن نسبة المخاطرمرتفعة.

إذن فرنسا كانت تنتظر حادث مأساوي مثل الذي وقع بمقر شارلي المثيرة للجدل ،على اعتبار المقاربة الأمنية والمخابرتيه" الاستباقية " كان يشوبها بعض الخلل ، مع التذكير بكون اكبر جالية مسلمة توجد بفرنسا وبالتالي يصعب مراقبة  التشكيلات التي تنتج هنا وهناك ،بسبب ضعف الاندماج بالمجتمع الفرنسي وبالتالي التدابير التي اتخذتها الداخلية الفرنسية من المنع وسحب الجنسية ، كلها كونت المناخ والأرضية الكفيلة لحادث مماثل.

  • ثانيا انساق الإعلام الفرنسي  أو بالأحرى انفلت الخيط الناظم لخطه التحريري بعد هول الصدمة ،وبعد خطاب كبير الدبلوماسيين الأمريكيين جون كيري والذي خاطب الفرنسيين بلغتهم وما تحمل هذه المبادرة من دلالات عميقة ،إذ أمام هذه الزوبعة التي تاه فيها المشاهد سواء الفرنسي المعروف بعاطفته المهزوزة أو العالم بأسره اتجه العديد من المحللين ،إلى تكريس الصورة النمطية لما بعد حادث 11 سبتمبر الأمريكي  ،وبالتالي لم ينتبه الجميع كون الامريكين كسبو الجولة مجانا ،و لن يكون مفاجئ زيادة الدعم الفرنسي بالعراق أو التدخل في بؤر أخرى بدعوى حماية الأمن القومي الفرنسي ،وبالتالي المبررات أصبحت جاهزة على المقاس .

لكن مايغفل عليه الفرنسيين كما الامريكين أو بالأحرى يتغافلون عنه لمبررات ضيقة استراتيجيا واقتصاديا ،هو التوجه للعمل العسكري بدل السياسي والدبلوماسي هو السبب في تعدد بؤر الصراع والنزاعات ، يكفي انه كانت بؤرة واحدة "أفغانستان " اليوم  نرى أن المنطقة كلها تشتعل بنيران أذكتها أيادي  وقرارات غربية، وبالتالي وبلغة المنطق عادي إن  أصابت  أصحابها ، غريب أمر هذا العالم  فعقم المنتظم الدولي  وهزل ردوده ، جعل من السنة الماضية عام العنف المستدام  ،إذ  يستمر مسلسله الدموي بإفشال مجال التفاوض السياسي والدبلوماسي ،وتغليب السلاح ،يبدو إننا نصنع برميل بارود ونحاول إشعال فتيله بهدوء .

  • أخيرا  اختم بجدران المبكى  ''مواقع التواصل '' والتي أظهرت بالموازاة مع الحادث ، تعليقات متشنجة  تظهر معوقات نفسية واضحة وترسبات ذهنية  لا واعية وبعقم الردود وهزلها ، يتضح أنها بلا هدف أو معنى  ،هدفها صنع عاصفة من الجدل و"الفوبيا" المجانية  اتجاه الأخر أو الثقافة الأخرى  ، استعلاء وعنصرية واضحة وبالتالي اتخاذ موقف حازم يجعلني احتج على هذا العنف الرقمي المبالغ ، سواء من هذا الطرف أو ذاك والذي يهدف بالأساس إلى إقصاء الأخر بدل الحوار، هذا يتجلى بالواضح في الخلل المشين في قيمة التضامن لدينا  نسيء التعبير عن ما مشاعرنا  دوما.

اختم  وجب أن نعيد تموقعنا في العالم ونعيد تركيب تراثنا الإسلامي وإعادة استقراءه ،على الأقل  لن نجد أنفسنا نحس بمركب نقص أمام الآخر ، عند كل استفزاز مادام لدينا زخم  ثقافي غني نؤثر به على البقية ونفتخر به، لا أن يجعلنا عراه أمام كل محطة احتكاك .

 

باحث في العلاقات الدولية والعلوم السياسية بجامعة القاضي عياض المغرب

وعضومجموعة البحث والتدخل السوسيولوجي (GRIS)