ثلاث سنوات مرت على الرحيل المؤثر والوحشي للعقيد معمر القذافي. وثلاث سنوات كانت كافية من اجل ان تتحول ليبيا من بلد فارغ من كل شيء الا من القبائلية وكتاب القذافي الاخضر وسط صحراء قاحلة لم تصمد كثيرا امام كل المتغيرات التي طرأت عليها منذ اندلاع الثورة / الحرب، لتتحول ليبيا من عهد الديكتاتورية والدولة بدون ملامح وبدون بنية سياسية ولا مؤسساتية، الى عهد الضياع والدولة الفاشلة التي تتقاذفها الصراعات الداخلية وتتقاسمها الاطماع الدولية وتفتتها التجاذبات الاقليمية معلنة بذلك نهاية عهد الاستقرار في ليبيا الداخل وليبيا ما خارج الحدود في منطقة محاطة بلهيب من المخاطر الامنية وتحديات الجماعات الارهابية والميليشيات المسلحة والمطامع الاستعمارية.

سياسيا، يبدو المشهد الليبي متناحرا لوفرة الكتائب والميليشيات المسلحة، وتحول الصراع السياسي إلى صراع مسلح افضى الى خلق برلمانان وحكومتان يتنافسان على الشرعية، بعدما سيطرت جماعة مسلحة على طرابلس في غشت الماضي ودفعت حكومة رئيس الوزراء المعترف به دوليا عبد الله الثني إلى الانتقال الى شرق البلاد، مما دفع كل طرف الى البحث عن الاستئثار بالسلطة، وممارسة ضغطه من خلال ميليشيات تابعة له يعتمد على ثقل كتائبها في الشارع، دون أن يعطي احد أهمية للأفكار الناضجة والحلول الديمقراطية والبرامج السياسية الهادفة الى اقناع واستقطاب المواطن الليبي استعدادا للمحطات السياسية وحفاظا على ما تبقى من ركام الدولة، مما يزيد من بؤرة الازمة التي تخيم منذ اكثر من ثلاث سنوات على البلاد، والتي لا تبدو لها في الوقت القريب بوادر انفراج رغم مختلف الدعوات التي تطالب بإخضاع كل الصراعات للعملية السياسية من داخل مؤسسات منتخبة. مما يجعل ليبيا تعيش حربا اهلية شرسة ولعبة تصفيات داخلية ذهب ضحيتها منذ سقوط القذافي أضعاف من اتهمت المعارضة نظام العقيد بقتلهم أو اغتيالهم على مدار 40 سنة.

كما زاد قانون العزل السياسي، الذي لعبت جهات محسوبة على “الاخوان المسلمين” دورا كبيرا من اجل الموافقة عليه، وصل حد التهديد بالسلاح ومحاصرة وزارات الداخلية والخارجية والعدل، والذي قد يقصي حوالي نصف مليون ليبي عن العمل في الإدارات والمؤسسات الحكومية من خلال بنذه الذي ينص على “عزل كل من أفسد حياة الليبيين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وتولى مناصب قيادية إبان حكم العقيد الراحل معمر القذافي”، زاد هذا القانون الذي خلق جدلا واسعا قبل وبعد المصادقة عليه من حدة الصراع بين الاطراف السياسية في ليبيا. بالاضافة الى الجدل حول الفيدرالية والانقسام مرة اخرى بين مؤيد ومعارض لها في الأروقة السياسية وعلى مستوى المسلحين والشارع، مما ساهم في تعقيد الوضع الامني في البلد الذي بات يفتقد الى ابسط مكونات الدولة.

اما امنيا، وفي ظل عدم وجود توافق سياسي يشكل دعامة للبلاد في وجه العنف ويتصدى للأطراف المتشددة بدل دعمها وجعلها ركيزة من اجل اثبات قوة كل فصيل وضمان تواجده واستمراريته، فليبيا تعيش تحت رحمة السلاح المنفلت، وتعدد الكتائب المسلحة التي تعمل وفقا لأجندات متباينة، وعدم القدرة على تشكيل جيش وطني موحد قادر على اعادة الامن والاستقرار الى البلاد، مما يهدد بانقسامها جغرافيا إلى مدن يحتلها الإسلاميون وميليشياتهم من ناحية، ومدن يسيطر عليها الليبراليون ويبحث فيها الجيش الليبي عن فرصة للبقاء ومحاولة للقضاء عمن يعتبرهم ارهابيين، من ناحية اخرى. ومن هنا تأتي تضاربات التصريحات بين اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي توعد في اكثر من مناسبة بالقضاء على المتشددين الليبيين المتمركزين في المدن الشرقية مثل بنغازي وطبرق والبيضاء، بينما يؤكد مجلس الشورى الإسلامي أن “مسلحي عملية الفجر” الإسلاميين الذين يضمون الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة وتشكيلات أخرى يسيطرون على الوضع في ليبيا.

وهذا الوضع الامني المتأزم، والذي لا شك له تداعياته على دول الجوار، بالاضافة الى الحرب الدائرة بين الاسلاميين وقوات حفتر كان له تأثير على تعاطي دول المنطقة باختلاف استراتيجياتها وايديولوجياتها مع الاحداث، بمعنى ان الوضع الداخلي الليبي هو الذي اعطى فرصة للتدخل الخارجي وفرض على الجوار الاقليمي التدخل في الشان الليبي اما دفاعا عن سلامة حدوده وحفاظا على امنه الوطني، او سعيا الى جعل ليبيا امتدادا لمطامعه الاستراتيجية والايديوجية.. وهذا ما يفسر الزيارات المتتالية للجزائر  قبيل انعقاد مؤتمر الحوار الليبي الذي يدعو إلى حوار تشترك فيه مختلف أطراف الصراع، والذي تلعب فيه الجزائر دور الوسيط باعتبارها المسؤولة عن الملف السياسي في مجموعة الدولة الست المجاورة لليبيا.

ليبيا ما بعد القذافي تدفع ثمن خوائها السياسي والعسكري والثقافي والاجتماعي بعدما خذلها من ادعوا انهم منقذوها وتركوها فريسة سهلة للفوضى والعنف والضياع بعدما استعانوا بالميليشيات المسلحة في ادارة الحرب ضد النظام وتركوا هذه الميليشيات بعد اسقاطه تعيث في الارض فسادا، وتحرق الاخضر واليابس، وتستخدم اليوم من اجل تصفية الحسابات السياسية كأدوات ضاغطة في الشارع.

ليبيا تخسر يوما بعد يوم آخر ملامح الدولة بعدما اعتقد الكثير ان بعد ثورتها المزعومة سوف تستعيد عافيتها وحريتها وهويتها التي تلاشت منذ ثورة الفاتح. وبعدما رفع الليبيون شعار “ارحل” فيما سبق في وجه حاكمهم قائد الثورة، هاهم يستغيثون اليوم بالمجتمع الدولي مطالبين بإرسال قوة دولية لحفظ السلام ورافعين شعار “احتلونا من اجل ان ننعم بالسلام”. وهو السلام الذي لن يكون ثمنه بسيطا في أي حال مادامت الأطراف المتحاربة ترفض الاحتكام إلى العملية السياسية كوسيلة وحيدة للوصول إلى السلطة، ولا تجد غير الخيار العسكري حلا من اجل المواجهة والوصول الى السلطة غير مهتمين بالدولة التي تنهار والشعب الذي يئس وبات يتمنى ان يحتل من طرف المستعمر فقط ليعود له السلام وينعم ببعض الاستقرار. اما المستعمر، فلم يعد في حساباته اكيد ان يدخل الى دولة منهارة مجتمعيا واقتصاديا وسياسيا.. ولا خيار الا بمصالحة وطنية وجلوس الليبيين بجميع فصائلهم والوانهم السياسية على نفس دائرة الحوار من اجل خلق مناخ للتعايش قادر على ان يجعل البلد تتخطى خلافاتها وتتجاوز محنتها الشديدة.

كاتبة مغربية 

رأي اليوم