عرف العرب الترجمة منذ أكثر من ألف ومائتي عام, وكان الخليفة العباسي المثقف المأمون يزن مخطوطات الوراقين المترجمة عن اليونانية والهندية والفارسية والسريانية بالذهب.. كان العرب في تلك الأزمنة يقرأون بعيون مفتوحة وعقول واعية مجادلة, وذائقة تستنطق النصوص المترجمة بأحترام .. كان العرب في تلك الأزمنة يصوغون هويتهم القومية بتعزيز الانفتاح الأيجابي , ويتعاملون مع الآخر بمساواة ممتلئة بالأعتداد والعزة .

في بداية عصور الأنحطاط العربي التقطت أوروبا شروحات أبن رشد وتفاسيره المدهشة للعوالم الأرسطية , قامت بترجمتها وأسست على محاورها قواعد نهضتها, فيما كان العرب يضرمون النار فى نفس تلك الشروحات والتفاسير وتكفير صاحبها ومطاردته كأنه مجرم .. أو وباء .

وتحول الخلفاء من الفتح الى حروب وملاحقات دموية للمناوئين لسلطانهم , شملت المثقفين الذين أتهمهم السلطان الجائر بأعمال العقل ووجه اليهم التهمة الجاهزة وهي الفتنة وتحريض العامة والزندقة .. لاحق الخلفاء عقول الأمة من كتاب وفلاسفة وشعراء ,وتفنن الجلادون فى قتلهم بعد تعذيب وحشي يكشف مدى الشر الذي يستحوذ على الحاكم  ومن حوله, وهكذا قتل أبن المقفع والسهروردي وبشار وعبد الحميد الكاتب وأبن مقلة ومات العلامة الموسوعي ابي حيان التوحيدي جوعا , ومات ابي العلاء قهرا , ومئات أخرون من أنضج عقول الأمة ومبدعيها .

كانت الهوية العربية فى العصر العباسي الثانى (847 م) قد تأكد أختراقها من الشعوبيين الرافضين للهيمنة العربية على أدارة الخلافة وجهزوا المكان للطورانيين الذين رأوا الأنتقال من على صهوات الجياد الى مخادع القصور هي الخطوة الأولى التى باتوا يحلمون بها بعد أستحواذهم على مقاليد الحياة السياسية والاقتصادية في بغداد , قبل نقل مقر الخلافة الى الأستانة وبداية الخلافة العثمانية على أنقاض السيادة العربية .

توقفت حركة الترجمة المدعومة من السلطة لأسباب أهمها في تقديري هو الخلل الذي أصاب روح الهوية التى لاذت بالأنعزال والتقوقع في مواجهة تقدم الآخرين .. كانت التحديات قد بدأت فى التموضع والتمظهر, ولكن الأستجابة كانت ضعيفة ورخوة .

يترجم العرب الآن للثرثرة ولتعزيز الأستلاب .. ويدركون وهم يلوكون الكلام ويجترون المصطلحات أن ناقل الصوت معطوب وأن المتلقين الذين يهزون روؤسهم أنما يضحكون ومنهم  يسخرون.

الهوية العربية ( الأنتماء الحصاري ) مطعونة في فلسطين .. الهوية العربية مصابة في مقتل .. الأحتلالات حتى الأستيطانية منها في الجزائر وليبيا وحتى العراق طارئة ومؤقتة , لكن ما يحدث في فلسطين ومنذ أكثر من ستين عاما هو أحد الأسباب الرئيسة فى معاناة الهوية العربية , التى لا يمكن لها بأي حال أستعادة عافيتها قبل أسترجاع فلسطين كاملة لأهلها من العرب بأطيافهم الدنية والثقافية كافة ( مسلمون ومسيحيون ويهود ).

فلسطين بوصلة الهوية العربية , ولن يكتب للأمة أن تفك شفرة التخلف والتشرذم قبل وقف المهزلة التى تتم يوميا ومنذ ستة عقود فى مدن وقرى فلسطين .

 

Mahmoud Albosifi
[email protected]