فوضى الحلّ دموع عين، لا يفكّ شفرتها إلّا الموضوع الذي من أجله انهمرت؛ فإنّ كانت مولودة حُزنٍ، تسيل ساخنة على الخدّين مواجعا وألما، وإن كانت مولود فرحة؛ فالابتسامة دافئة على الخدين كالشّلال تنحدر؛ فلا حدود تستوقفها، ولا ضوابط تقيّدها، إيقاع موسيقاها قوّة (الفوضى)، تنحدر من علوٍ، إلى الرّكبتين تتصلُ، ومن بعدها القدمين إلى الأرضُ تنساب.

هذه، هي الدّمعة، وهكذا، هي الفوضى؛ فلا هروب من الفوضى بداية، ولا مفرّ للبداية من النهاية، مع الفارق بين الآلام؛ فمع إنّ آلام الولادة فرحة، وآلام النّهاية حزن، ولكن الفوضى البداية، والنّهاية غير ذلك؛ فهي على  معكوس الدّلالة والمعني للحياة والموت، من حيث أنّ ولادتها حزن، ونهايتها فرحة، منها يخرج الحلّ كما يخرج الحيّ من الميّت.

فوضى الحلّ، خروج بالقوّة الفعّالة من المشاغبة إلى الاحترام، ومن التمسّك بالمصلحة الخَاصّة إلى القضايا العامّة، ومن عدم المبالاة إلى العناية والاهتمام، ومن الانفلات إلى الضبط، ومن سيادة المظالم إلى سيادة العدالة والقانون، ومن الأخذ بالرّذائل إلى الأخذ بالفضائل، ومن تقويض القيم إلى تعظيمها.
ومن هنا، المحاور يسأل:

من هم موقدو نار الفوضى؟..  الأقوياء عصبية وعدّة وعتادا.
ومن يوقد نار الفتنة؟.. الضعفاء (أقلية وسياسة).
ومن الذين يتخندقون وراء المفاسد؟.. الغاوون (لهواً وشهوةً).
ومن الذين يضحّون بالآخرين؟.. أصحاب الأيديولوجيات الممسوخة.
ومن هم السجّانون؟.. أصحاب العضلات المفتولة، والقلوب القاسية.
ومن الذين يقومون بكلّ ذلك في وقت واحد، ولا يبالون؟.. الذين ينظرون لكلّ شيءٍ، ولا يميزون بين الأشياء مزاجا.
ومن هم أولئك؟.. المدّعون السياسة (أصحاب المشاجب).
وفي المقابل، من همّ أهل المواقف؟.. الوطنيون (أصحاب الضمائر).
وأين هم؟.. خطوة للخلف تقديرا للفوضى.
يا إلهي، الوطنيون يقدّرون الفوضى!.. الوطنيون لو لم يكونوا أصحاب ضمائر لكانوا في قلبها.

بعد أن عرفنا أنّ للفوضى ساسة، هل لنا أن نعرف أصحاب رأس مالها؟
أصحاب رأس مال الفوضى هم:
ـ فقراء القيم.
ـ المغنّون للأحزان.
ـ قراصنة المنافذ.
ـ المشايخ بلا مشيخة.
هل هذه دلائل إثبات الفوضى؟
لا، ليست هذه، بل دلائلها كثيرة، منها:

ـ خروج الأبناء عن طاعة الآباء الطّائعين لله تعالى.
ـ تكسير القيود الأخلاقية.
ـ تكميم الأفواه.
ـ المُدراة على العيوب والدّفاع عن مرتكبيها.
ـ تعمير السجون فوضى.

ومتى نعرف حقيقة أنّ الفوضى قد ألمّت بالوطن؟

ـ عندما يستباح تراب الوطن من قِبل الاستخبارات العالمية والإقليمية.

ـ عندما يصبح سفراء الدّول يلتقون بالمواطنين أفرادا وجماعات متى ما شاءوا.

ـ عندما يصبح وسطاء فكّ الفتيل بين بني الوطن أجانب.

ـ عندما تفلج الفرحة صدور أفراد الأسرة التي استطاعت أن تجمع مالا لتحرّر به أحدا من أفرادها من أيدي المختطفين.

ـ عندما تصبح رؤوس البلاد رؤوسها في الخارج.

ـ عندما تصبح حدود الدّولة بوابات بلا أبواب تحرسها.

ـ عندما يصبح الولاء للأحزاب على حساب الولاء للوطن.

ـ عندما تصبح ثروات الوطن تحت أيدٍ لا رقابة عليها.

ـ عندما يصبح المراقب بلا رقيب.

ـ عندما تنتخب الخراف ذئبا نائبا عنها.

ـ عندما تصبح الثّعالب مشايخ لفكّ الخصام بين الدّواجن.

ـ عندما يطلق سراح القلق، والفزع، والرّعب، في المنازل والأماكن العامّة.

ـ عندما تفقد العدالة عنوانها وتفقد ذاكرتها الوطنية.

ـ عندما تفقد الأسر والعائلات بوصلة العِبر والاتعاظ.

ـ عندما يغيّب الكبار خبرة وعلما وتجربة، ثمّ يصبح أهل الاقتداء والقدوة محلّ سخرية.

ـ عندما تصبح وسائل الإعلام أبواقا لمن يمكن له أن يصفّر فيها كما يشاء.

ـ عندما يصبح الجيش الوطني والشّرطة الوطنية في خبر كان.

- عندما لا يميّز النّاس بين الوقوف تحية لراية الوطن، وبين الوقوف تحية للحكومة.

ـ عندما لا يميّز النّاس بين راية الوطن وبين رّايات الأقليات فيه.

ـ عندما يصبح مشايخ القبائل يقدّمون مصالح أبنائهم على حساب مصالح قبائلهم ومكاناتها.

ـ عندما لا تجد الثقة مكانا لتُغرس فيه.

ـ عندما يغزو اليأس والقنوط قلوب النّاس.

ـ عندما يجد المواطن نفسه مخيّرا بين الأخذ بالسيئ أو الأسوأ منه ولا يرفض.

ـ عندما يصبح من باع نفسه عبداً غير مخلص للعبوديّة.

ـ عندما يُقبّل النّاس أيادي الظلمة ويحبّون على رؤوسهم.

ـ عندما يصبح كبار القوم عند أقوامهم وكأنّهم فاقدون للذاكرة.

ـ عندما يصبح النّفاق أرجوحة لعب للكبار والصّغار.

ويقول السائل: ولكن الفوضى، متى ستلد لنا على الأرض حلّا؟

أقول:

ـ بعد أن تُرمى الأحقاد بعيداً عن الذاكرة.
- بعد أن يتمّ الاعتداء على العدوان حتى بلوغ إشارة (قفّ).
ـ بعد قطع طُرق قطّاع الطّرق.
ـ عندما يسود الأمن وسط السّجون.
ـ عندما يقصى الإقصاء.
ـ عندما يغيّب التغييب.
ـ عندما يعزل العزل السياسي أمام العدالة.
ـ بعدما تنسف جسور العمالة والتبعية للغير.
ــ عندما يصبح الشّعب متهيئا ومتأهبا لاستصدار دستور مصدره العرف المحتوي للقيم والدّين منبع الفضائل.
ـ عندما تصبح إدارة الدّولة تدار برؤية (نحن سوياً).

وفي الحوار يسأل السائل:

متى سيكون الحلّ في دولتنا؟.. بعد أن تعم الفوضى.
ألم تكن قد عمّت؟.. لو عمّت شدّة لفُرجت.

لقد مللنا، متى ستعم لتنفرج علينا؟.. تعمّ الفوضى حلّا بين النّاس بعد أن تتحقّق منجزاتها الآتية:

ـ اختطاف القانون ومنفّذيه.
ـ اختطاف العناوين وأبنائهم.
ـ انتشار النّهب والاعتزاز بالمنهوب.
ـ التصرّف في ميزانيات الدّولة حتى تُقهر المصارف.
ـ القتل دون تمييز بين القطِّ ومالكه.
ـ القبض على حقوق الإنسان وسجنها نكاية في السّجين.
ـ تحرير المفاسد وتكريم محرّريها.
ـ توسيع دائرة الفتنة حتى تقطع حبل الصرّة.
ـ الاستعراض بالقوّة حتى تُقهر الأنفس.
ـ تعميم الإقصاء ووضعه تاجا على رؤوس المقصين.
ـ توسيع دائرة العزل السياسي نكاية في الوطن.
ـ تقويض القيم حتى تغيّب الذاكرة.
ـ التحكّم في مصادر الثّروة ومفاصل الدّولة حتى يعلن الضعيف اعترافه بسيادة المتحكّم في مصيره.
ـ إحياء العصبيّة حتى يتمّ الاعتراف بالثأر حقّ هويّة ومواطنة.
ـ الأخذ بفتاوى المالكين للعصي الطويلة.
ـ تفكيك الجيش الوطني والشّرطة الوطنية ورميهما هناك بعيدا عن المشهد.
ـ تعظيم الأمزجة وتهميش العدالة.
ـ سحب الثّقة من الاحترام والتقدير والاعتبار، وترك أصحابها وكأنّهم فاقدو هويّة، ولا فرق بينهم وبين من دخل البلاد خلسة.

ومتى يلد الحلّ من الفوضى؟
يلد يوم أنْ:

ـ تسفّه السّفاهة.
ـ تفكّك السّلطة المفكوكة.
ـ يروّض الجموح.
ـ يسلب المسلوب.
ـ يتم التطرّف عن التطرّف.
ـ يلقى القبض على القَبَضَة.
ـ يسجن السجّان.
- تقبّل الموت من أجل الحياة.

معك الحقّ، لا داعي للانتظار؛ فالانتظار لا يكون إلّا علّة جُبنٍ، وهدّا لأركان الوطن، وخراب أمنه، وتجزئته، وسرقة خيراته، وأميّة شعبه وتخلّفه.

{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . انتظر قليلا حتى ابلغ النّاس بركوب السفينة، وأن يحضروا معهم من كلّ زوجين اثنين؛ من أجل الوطن بيت الجميع ولا استثناء.

ها هو البعض محضر معه، العفو العام، والعفو الخاصّ.
وها هو البعض محضر معه الجيش الوطني، والشّرطة الوطنية.
وها هم الأهل محضرون معهم المصالحة والتوافق الوطنيين.
وها هيّ الحكومة محضرة معها العدالة والإدارة الملاحقة.
وها هيّ السيادة مشكّلة باقة من كلِّ زوجين بين أيدي النّاس، ولا محروم.
وها هو الشّعب واضع نصب عينيه النّهوض والنُقلة.

إلى أين؟.. إلى المواجهة.
مواجهة منّ؟.. مواجهة الفوضى.

ولماذا اخترت المواجهة بعد أن ركب من كلّ زوجين اثنين؟.. لينجو الرّكاب وتستمر الحياة بلا مفاسد.
والذين لم يركبوا معنا؟.. مصيرهم الغرق.

 

وزير تعليم ليبي سابقا 

 

نقلا عن ليبيا المتقبل