تعتبر ليبيا من أغنى المناطق فى شمال افريقيا فى امتلاكها لأرضيات الفسيفساء ذات الموضوعات الكثيرة التى تمثل جميع أوجه الحياة العامة مثل الحياة الاقتصادية خاصة الزراعة والصيد البحرى، والحياة الاجتماعية خاصة أعمال اللهو والترفيه، بالإضافة إلى ذلك نجد موضوعات تمثل الأساطير الإغريقية الرومانية. ونجد لوحات فسيفسائية فى غاية الروعة والاتقان موزعة على العديد من المدن الليبية القديمة مثل أبولونيا "سوسة" وقورينى "شحات" وقصر ليبيا، وطلميثه،وتوخيرا "توكرة" ويوسيبيريدس "بنغازى" وزليطن ولبدة وتاجوراء واويا "طرابلس" وصبراته . وتعتبر اللوحات الجميلة المعروضة بالمتحف الجماهيرى بطرابلس من أحسن نماذج الفسيفساء التى ترجع لفترة الاستعمار الرومانى بالمنطقة .

نماذج من فسيفساء عثر عليها فى قصر ليبيا بالجبل الأخضر ترجع للفترة المسيحية

ويظهر على معظم هذه اللوحات تأثير مدارس الشرق لصناعة الفسيفساء خاصة مدرسة الإسكندرية . ففى اللوحات التى جلبت من مدينة زليطن وبالتحديد من " دار بوك عميره" نرى فى إحدى اللوحات منظر يمثل الفصول الأربعة، ومنظر آخر يمثل أوراق الأكانثوس، ومناظر لبعض الطيور والحيوانات البرية المختلفة. وتوضح هذه اللوحات الجميلة مدى تأثر الرومان بالطبيعة الشرقية .ونلاحظ أن معظم اللوحات التى جلبت من مدينة لبدة وضواحيها تمثل مناظر للصيد، خاصة صيد الحيوانات البرية المتوحشة كصيد الحمار الوحشى، وصيد الأسود. ونجد لوحات أخرى تمثل النيل وهو من الموضوعات المأخوذة من مدرسة الإسكندرية لصناعة الفسيفساء .وعمليات تعظيم النيل وتصويره بطرق مختلفة كان من العادات المتبعة لدى سكان منطقة وادى النيل فى العصور القديمة ومن خلال معظم تلك الفسيفساء نلاحظ أن الشرق قد طبع الغرب الرومانى بطابعه الشرقى . ويتضح ذلك بكل وضوح فى انتشار أسلوب مدرسة الإسكندرية فى فن الفسيفساء فى صقلية ورما.

 

* أنواع الفسيفساء :

 

ولقد اتبع الرومان فى صناعتهم للفسيفساء ثلاث طرق رئيسية، وقد عثر على نماذج من هذه الأنواع الثلاثة فى معظم المناطق الأثرية فى ليبيا.

 

يعرف النوع الأول باسم " أوبوس تيسيلاتوم" وقد كانت اللوحات الفسيفسائية لهذا النوع تصنع من مكعبات صغيرة لمثل موضوعات مختلفة بالإضافة إلى الزخارف الهندسية وهذا النوع من الفسيفساء من أكثر الأنواع انتشارا ً، ومن أحسن نماذجه تلك اللوحات التى تمثل النيل التى عثر عليها بفيلا النيل قرب مدينة لبدة.

 

ويعرف النوع الثانى باسم" أوبوس سيكتيل" وكانت اللوحات الفسيفسائية التى تنفذ على هذه الطريقة تتكون من مزيج من مكعبات الفسيفساء والقطع الرخامية الكبيرة ومن أحسن نماذج هذا النوع فى ليبيا اللوحة التى تمثل الفصول الأربعة المعروضة بالمتحف .

 

ويعرف النوع الثالث باسم "أوبوس فير ميكولاتوم" وقد كانت اللوحات الفسيفسائية تصنع من هذا النوع عن طريق مكعبات فسيفسائية صغيرة جدا ًتكون مصنوعة من الرخام بالإضافة إلى قطع أخرى تكون مصنوعة من عجينة زجاجية. وهذا النوع الأخير يعتبر من أدق أنواع الفسيفساء بالإضافة إلى ذلك فإن اللوحة الفسيفساء من هذا النوع تكلف أثمان باهضة . أحسن مايمثل هذا لوحة أورفيوس التى عثر عليها بإحدى الفيلات الرومانية بالقرب من مدينة لبدة.

 

وخلال حديثنا عن الفسيفساء الليبية سوف نتحدث عن نماذج من لوحات فسيفسائية تمثل بعض جوانب الحياة العامة التى كانت تعيشها المنطقة أثناء الهيمنة الرومانية، وخاصة تلك اللوحات التى تمثل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية .

 

ففى مجال الحياة الاجتماعية سوف نركز على الموضوعات التى تمثل حياة اللهو والترفيه والرياضة. أما فى مجال الحياة الاقتصادية فسوف نركز على الموضوعات التى تمثل الحياة الريفية والصيد سواء كان الصيد البحرى أو صيد الحيوانات البرية المتوحشة.

 

* الحياة الاجتماعية :

 

أما عن الحياة الاجتماعية فإن أحسن نماذجها تلك اللوحات الفسيفسائية التى تمثل اللهو والترفيه والرياضة فإن أحسن مايمثل هذا الجانب لوحتان: الأولى جلبت من "فيلا" دار بوك عميرة بزليطن وهى معروفة حاليا ًبمتحف السراي بطرابلس وهى تمثل تلك الألعاب التى كانت تقام بالمسارح الدائرية "الامفتيتر" وقد كانت تلك الألعاب تقام لمجرد تسلية الرومان من خلال استعراضات مثيرة تشمل المصارعين وهم يحملون السيوف، ومصارعى الوحوش المفترسة . ونلاحظ فى هذا الجانب من الاستعراضات أنه كلما كانت الوحوش المفترسة غير مألوفة، كلما ازداد سرور الجمهور . لقد ترك لنا الشاعر الرومانى "مارتيال" أخبار تلك الاستعراضات من خلال أشعاره الكثيرة التى تمتاز بالمبالغة . ولكن رغم هذا فإن تلك الأخبار هى خير دليل على حياة اللهو والترفيه المروع الذى كان يعيشه الرومان . لقد أشار"مارتيال" إلى استعراضات استمرت حوالى 100 يوم وقد كانت تلك الاستعراضات غريبة ومليئة بالعنف والقسوة. وقد استطعنا التعرف بأنه فى يوم واحد فقط تم قتل مايزيد عن 5000 من الحيوانات المفترسة التى كانت تجلب من أدغال أفريقيا.

 

ويصور جانب من هذه الفسيفساء عملية صيد الحيوانات البرية حيث نرى صيادين وكلابهم وهن ينقضون على غزال وبقرة وحشية وحمار من النوع الوحشى وعدد من النعام. وفى جانب آخر يظهر ثور ودب وقد ربطا إلى بعضهما البعض وهما يتقاتلان حتى الموت . وعلى العموم فإن موضوعات هذه الفسيفساء لم يقتصر على عمليات صيد الحيوانات المفترسة فحسب، بل أن موضوعاتها كانت تشتمل على مبارزات كانت تجرى بين الحيوانات المفترسة والآدميين، حيث نلاحظ فى نفس الفسيفساء السابقة منظر يمثل بعض المساجين وأسرى الحرب المساكين وهم يقدمون للحيوانات المفترسة، حيث نلاحظ نمرا ًيجهز على أحد يستعد للانقضاض على فريسته البشرية. 

 

وفى منظر آخر يبدو أحد حراس الحلبة وهو يجر أحد الأسرى من شعره نحو أسد ضار. ولم تكن تلك الفسيفساء تمثل تلك المبارزات المروعة فحسب، بل أنها كانت تصور الصراع بين الآدميين أيضا، ففى أحد جوانب تلك الفسيفساء يظهر أشخاص مسلحون بأنواع مختلفة من الأسلحة، حيث تقوم المبارزات بين هؤلاء الأشخاص على أنغام الموسيقى. وقد كان من عادة هذه المبارزات أن المهزوم يرفع يده اليسرى كناية عن استسلامه، وعندما يكون الحكم لأهم شخصين من بين الحاضرين لهذه المبارزات، حيث يكون حكمه هو القرار الفاصل فإما الموت أو الحياة. وقد كانت هذه القرارات عادة وفق رغبة المتفرجين، فإذا رفع القاضى إبهامه الأيمن إلى أعلى يعنى ذلك الابقاء على حياة المهزوم، أما إذا اشار بإبهامه إلى أسفل فيعنى ذلك أن على المنتصر أن يقضى على خصمه.

 

أما عن اللوحة الثانية فهى معروضة حاليا ًبفيلا سلين غرب مدينة لبدة، وهى تصور سباق العربات داخل إحدى حلبات السباق. ربما تكون حلبة سباق مدينة لبدة. ويبدو فى هذا المشهد مجموعة من العربات كل عربة تجر بواسطة مجموعة من الخيول . و كل عربة تتميز بلون معين يختلف عن الأخرى، عادة يكون الأزرق،والأبيض، والأخضر، والأحمر. ويلاحظ فى هذا المنظر وجود أكثر من أربع عربات ووجود الكثير من الفرسان الذين الذين يمتطون الخيول الفردية، ووجود الكثير من الرجال ينتشرون داخل حلبة السباق. وهذا الأمر يجعلنا نعتقد أن السباق وصل إلى نهايته ولذلك كثر الخارجين والداخلين إلى حلبة السباق.

 

وكان سباق العربات فى العهود القديمة خاصة فى العهد الرومانى يثير روح الانفعال والحماسة لدى المتفرجين، الذين كانوا ينقسمون إلى أربع مجموعات من المشجعين يأخذون ألوان العربات المتسابقة. وتعتبر هذه اللوحة الجميلة المعروضة بفيلا سيلين من الوثائق الهامة فى مجال العمارة، والتى عن طريقها استطعنا التعرف على التفاصيل المختلفة التى تتكون منها حلبة سباق مدينة لبدة، واستطعنا التعرف أيضا ً على طريقة البناء والأجزاء المختلفة التى تتكون منها حلبات السباق التى شيدت فى العهد الرومانى.

 

والجدير بالملاحظة أنه توجد لوحة فسيفسائية أخرى تمثل سباق العربات عثر عليها فى مدينة قرطاجة وهى معروضة حاليا ً بمتحف باردو بتونس. وقد عثر على لوحة أخرى مرسومة عن طريق "الفرسكو" تمثل سباق العربات، وتوجد حاليا ً بمقبرة "ألبا اريسوت" غوط الشعال بطرابلس.

 

* الحياة الاقتصادية:

 

أما عن اللوحات الفسيفسائية التى تمثل الحياة الاقتصادية فتوجد العديد من اللوحات التى تمثل الحياة "الريفية"،وعمليات صيد الوحوش البرية وعمليات الصيد البحرى.

 

وأحسن مايمثل الحياة الريفية تلك اللوحة التى عثر عليها فى فيلا دار بوك عميرة بزليطن وهى معروضة حاليا ً بمتحف السرايا الحمراء تصور هذه اللوحة عمليات دارس الحبوب فى إحدى المزارع الريفية بضواحى المدن الثلاث. ويظهر فى هذه اللوحة امرأة جالسة على كرسى طويل وهى رافعة يدها اليمنى تحث العمال على مضاعفة الجهد لإنهاء عمليات الدراس. ويبدو من جلسة المرأة تحت ظل الشجرة أنها صاحبة المزرعة. يظهر أمام المرأة جرن دراس الحبوب "المندرة" على شكل دائرة كبيرة. يوجد بها أكوام من سنابل القمح. ويقوم بعمليات الدراس مجموعة من العمال. فنجد فى أحد الجوانب رجلان يقودان حصانين، فى جانب آخر نرى رجل يقود ثورين، ونجد أحد العمال يجمع النسابل داخل الجرن، ونرى عامل آخر يتكىء على المدرة استعداداً لتحريك سنابل القمح. ونلاحظ أن الجميع يحاول التحرك فوق السنابل للإسراع فى فصل الحبوب عن السنابل. يوجد على مسافة قريبة من الجرن قصر ريفى جميل يتقدمه الأروقة المرفوعة فوق عقود مرتفعة، بالقرب من القصر يظهر منزل صغير أقل ارتفاعا ً من القصر يبدو أنه يخص العمال.

 

ولم تقتصر الأعمال الريفية من خلال لوحات الفسيفساء على عمليات دارس الحبوب فقط، بل نجد موضوعات أخرى كثيرة فنجد موضوعات تمثل عمليات الحرث والبذر كما هو موجود فى فسيفساء شرشال بالجزائر وموضوعات أخرى مثل فنشاهد فى بعض اللوحات عمليات زراعة العنب المتسلق، وعمليات جنى ثمار العنب، وعمليات عصر العنب. ونجد فى لوحات أخرى يستعمل العنب لغرض الزينة كزخرفة نباتية تحيط بعض المناظر الفسيفسائية الجميلة . أما عن اللوحات الفسيفسائية التى تمثل الصيد فيوجد فى ليبيا الكثير من اللوحات التى تمثل هذا الجانب، لكن أحسن تلك اللوحات فى مجال صيد الحيوانات البرية المتوحشة ذلك الجانب من لوحة المصارعين التى عثر عليها فى فيلا دار بوك عميرة بزليطن وهذا الجانب يمثل صيد بعض الحيوانات البرية.

 

أما فى مجال الصيد البحرى فإن أحسن ما تمثله تلك اللوحة التى عثر عليها فى فيلا النيل قرب مدينة لبدة والتى تمثل بعض الصيادين يصطادون الأسماك بالطريقة التقليدية.

 

هذه اللوحة الجميلة تعتبر من أحسن اللوحات المعبرة عن صيد الأسماك . يبلغ طول هذه اللوحة 82,3م، وعرضها 21, 1م. وهى ذات إطار جميل على شكل حبل مجدول يأخذ الألوان الأصفر والأحمر والأبيض، تعبر هذه اللوحة أحسن تعبير عن حياة الصيادين بتقديمها العديد من طرق الصيد البحرى التى مازالت تتبع حتى الوقت الحاضر. نجد على أحد جانبى اللوحة صياد مسن يجلس على صخرة ممسكا ًبيده قصبة صيد ويحاول وضع الطعم للسمك حتى يتمكن من اصطياده. بالقرب من هذا الشيخ رجل فى مقتبل العمر يحاول إخراج سمكة تمكن من اصطيادها. وعلى بعد قليل من الرجلين وفى منتصف اللوحة تقريبا ًيوجد رجل آخر يلقى شباكه على أمل الفوز بصيد وفير. يوجد على الشاطىء ثلاثة رجال يسحبون شباكهم المليئة بالأسماك وبالقرب من هؤلاء يوجد رجل يقترب من البحر يحكل شباك الصيد ويحاول البحث عن مكان مناسب لرمى شباكه. وفى عرض البحر يوجد قاربان بهما صيادون ربما كانوا منطلقين للصيد أو فى طريق العودة من رحلة صيد ناجحة.