تنوعت القراءات و تشعبت التحليلات (  فيها الامني و الديني و السياسي و الحقوقي و التربوي و الاستراتيجي..)  فيما يخص فاجعة شارلي ايبدو . ويبقى المنظور المتعدد المستويات هو المنظور الكفيل بادراكنا العميق لحجم الفاجعة و تداعياتها. وعموما، فاننا نرى ان الحقيقة الاكثر بداهة ،التي يمكن ان نستشفها من وقوع هذه الفاجعة المؤلمة تدور في فلك مسالتين جوهريتين او نمطين من انماط الحكامة ) الحكامة الامنية و حكامة المخاطر(.فاذا كنا نرى ان الحكامة هي براديغم حيوي و دينامي للتدبير الواعي لبنيات اي نظام من الانظمة او اية مؤسسة من المؤسسسات ،ومن ثم تبلورها كالية نموذجية للتدبير، او انها جملة متراصة من الاواليات وكل موحد من المبادئ المتوسل بها للوصول الى تدبير ذو كفاية وفعالية ، شفاف وتشاركي ، رشيد و معقلن، مندمج ومسؤول، استشرافي و استراتيجي. بصيغة واحدة تدبير حكاماتي. واذا كنا نعتقد ان الحكامة الامنية هي مختلف التدابير و الاجراءات الوقائية و الزجرية المعمول بها للحد او التخفيف من الجرائم الممكن وقوعها او المحتمل حدوثها )بدءا من المخالفات البسيطة كحادثة سير ووصولا الى الجرائم الخطيرة كالارهاب (.واذا كنا ننظر الى حكامة المخاطر، باعتبارها احدى السبل و الاواليات المفكر بها بعمق وتبصرلبلورة اسس و اركان التدبير الجيد  للمخاطر و التعامل المحكم معها . انطلاقا من كل هذه التصورات الابستيمية يمكن طرح السؤال التالي:   كيف تتبلور اوجه القصور و مكامن الضعف في هذين النمطين من الحكامة) الحكامة الامنية و حكامة المخاطر(، و عبرها تو اجد نموذج الحكامة السيئة، المختلة ،الهشة من خلال القراءة الاولية لاعماق هذه الفاجعة؟.على هذا الاساس، يمكن القول ان من ابرز القراءات المستخلصة بخصوص فاجعة "شارلي ايبدو" ،نجد كون الهجوم عرى عن قصور بين على مستوى نمطي حكامة المخاطر و الحكامة الامنية وعدم ارتكانهما على اسس صلدة و ركائز صلبة ،وهو المعطى الذي يمكن الوقوف عليه من خلال مستويات الفهم التالية :         

   -اولا:   الفهم  المعولم والاستراتيجي للفاجعة :  حيث انه في ظل سياقات ارهاصية نشات ظاهرة العولمة كصيرورة من صيرورات التطور البشري ، الغير المسبوق و المتلاحق الابعاد .وهي الظاهرة التي صاحبتها و جايلتها جملة من التحديات، جعلتها تعرف رجات وهزات، هددتها و مازالت تهددها في العمق ،وذلك من منطلق  ان المخاطر اضحت من ابرز عناوينها: امنيا ،اقتصاديا، اجتماعيا ،ثقافيا، بيئيا...  هكذا تحول المجتمع الانساني برمته من الامن النسبي الى مجتمع المخاطر، والذي يعد نتاجا خالصا للصدمات القوية ،الكابحة لتطوره السلس. حيث اخذ المجتمع الدولي باسره، يتسم بصفات الهشاشة والضعف ويتبلور كمجتمع مهدد في العمق ،تحدق به المخاطر من كل صوب وحدب، وتصيره بالتالي مجتمعا رخوا ،قابلا للاختراق في كل وقت و حين. ان فهم الفاجعة من هذه الناحية ،يجد اساسه ،في كون فرنسا كانت تنظر الى نفسها، وبشكل دائم ،الى كونها  في مناى عن اي تهديد ارهابي قد يهدد كيانها الامني ، وهو التهديد الذي اصبح يكتسي الطابع المعولم بنفس القدر الذي تكتسيه ظاهرة الارهاب في حد ذاتها .فليس هناك اي مجتمع قد يدعي انه غير معرض لهذا النمط الفتاك من الخطر)الولايات المتحدة الامريكية، اسبانيا، بريطانيا، المغرب...( اذ اضحى الارهاب ظاهرة معولمة ،لاتعترف بالحدود و لا بالثقافات ،ويمكن ان تهز ارجاء اي دولة من دول المعمور .و الادهى من ذلك ان فرنسا حولت استراتيجيتها على مستوى احتواء الخطر المحدق بها ،بشكل فيه  الكثير من  الدوغمائية  و الاستعلاء ، الى التهديدات الارهابية التي يمكن ان تمس رعاياها و مواطنيها المتواجدين بالخارج)تحذيروزارة الخارجية  الفرنسية في هذا الصدد، والذي نصح الفرنسيين بعدم السفر الى بعض الدول، ومنها المغرب(في اطار يتسم بنوع من الاستخفاف وغياب بعد النظر، وهي السمات التي تم رصدها على مستوى الخطا الفادح  المرتكب بخصوص  شبه فقدان لحليف استراتيجي في مكافحة الارهاب )في اطار الازمة الديبلوماسية الناشئة بين الرباط و باريس -نتيجة ما عرف في الصحافة الفرنسية "بحادثة نويي" ،والمتمثلة في  استدعاء مدير مراقبة التراب الوطني المغربي الى العدالة الفرنسية،  وحوادث اخرى ، ساهمت في تصدع العلاقات بين البلدين ، من قبيل  ،التصريح المستفز  للسفير الفرنسي بالامم المتحدة جيرارارو ،و الذي وصف المغرب ب" العشيقة"،و كذا حادثة تفتيش وزير الخارجية المغربي  باحد مطارات العاصمة الفرنسية ، ثم حادث الاعتداء اللفظي على ضابط  عسكري مغربي كبير-وهي الازمة التي كان من ابرز نتائجها تعليق التعاون القضائي  بين البلدين  و التراجع على مستوى التنسيق الامني  و الاستخباراتي ).ان المغرب  اصبح رقما مهما ،يعول عليه لايقاف النزيف الدموي لهذه الافة، خاصة على المستوى الاستخباراتي و المعلوماتي .علما ان بلادنا اكتوت بنار هذه الافة، الشيء الذي جعلها تتبنى خطوات رائدة على مستوى حكامتها الامنية ، بما فيها مستوى امتلاكها لادوات استباقية  في مواجهة اي خطر ارهابي محتمل ،وهو ما تم الاعتراف به من طرف العديد من الدول كاسبانيا ،التي ما فتئت تؤكد على متانة علاقات التنسيق و التعاون مع المغرب في هذا الصدد.                                                                                                                                                

  -ثانيا : الفهم الوقائي للفاجعة  :  حسب تعريف "ISO<IEC Guide73"فان المخاطرة ،هي "عبارة عن ربط بين احتمال وقوع حدث و الاثار المترتبة عن حدوثه" .و بالتالي تشكل عناصر: الامكانية، الفرضية، الاحتمال، عناصر جوهرية في مفهوم المخاطرة .وحتى يتم توظيف هذه العناصر توظيفا ايجابيا ،يبدو من الضروري اللجوء الى بعض الاليات الكفيلة بفرض نمط تعامل فعال ،يكون في مستوى خطورة وحدة وحجم المخاطر المتوقع حدوثها . ومن ابرز هذه الاليات تبني الاحترازية و الوقائية في مواجهة قبلية للمخاطر المحتملة . في هذا السياق تلاحظ  جملة من الملاحظات  الجوهرية :عدم التعامل الجدي مع الفعل الجسيم الذي تم القيام به  في وقت سابق - على اثر نشر "شارلي ايبدو" للرسوم المسيئة للرسول الكريم - و المتمثل اساسا في  اضرام النار بمقر الجريدة ،وهو الفعل الذي كان من اللازم على الاجهزة الامنية الفرنسية التعامل معه بنوع من الاحتياط المطلوب و الاحتراز المرغوب، وكذا نفس الشئ بالنسبة للتهديدات المتكررة و الموجهة لاعضاء تحرير الجريدة و العاملين بها  .  وهي التهديدات الي جعلت من المفروض على هذه الاجهزة توفير الحماية اللازمة لهم ،داخل المؤسسة الصحفية و بمحيطها، و هو الشئ الذي لم يحدث، فشريط الفيديو المتداول ووقائع الفاجعة ،تؤكد ذلك ،حيث تواجد عنصر امني واحد - وهو حسب المعلومات المستقاة عنصر من فرقة الدارجين - التحق بمكان الحادث ، بعد تلقيه لطلب النجدة  و الاغاثة ، كما انه ظل- كما يوضح الفيديو- واحدا في مواجهة المهاجمين  المسلحين  الذين  اطلقا ،وبكل برودة النارعلى جسده ، ممايعري على خلل من الاختلالات التي مست منظومتي حكامة المخاطر و الحكامة الامنية على مستوى الحادثة،وهو الخلل المرتبط بغياب السرعة في التدخل ، وكذا عدم فعالية اجهزة المراقبة الطرقية و المرورية و غياب التغطية الامنية الكافية و الانية، بحيث ان منفذا  الهجوم توجها الى مقر الجريدة وارتكبا المذبحة الشنيعة و غادرا مكانها و استطاعا الفرار الى ضواحي باريس، على بعد خمسين كيلومتر، دون  اي  تتبع اني و سريع يذكر ،اي انهما اخذا وقتهما الكافي في تنفيذهما لفعلهما الاجرامي، كما انهما اخذا يصولان ويجولان في مسرح الجريمة، بعد ان ارتكباها . في هذا السياق ،يصرح جان لويس بروجيري، وهو قاض سابق مكلف بقضايا الارهاب"لم اندهش وحسب ،من هدوء الملثمين، بل ايضا من الاسلوب الاحترافي ، الذي نفذوا به هروبهم، بعد ان اخذوا وقتهم للاجهاز على شرطي مصاب ".وهو المعطى الذي تؤكده  ، ان جود يسيلي ،  وهي رئيسة لوكالة استشارات امنية" من الواضح انه هناك عملية استطلاع سلفا ،  لقد وجدوا ثغرة في الترتيبات الامنية و اختاروا طريقة تضمن النجاح"  . كما ان ضعف الجانب الوقائي، يستشعر من خلال  غياب التتبع المكثف و المتواصل و المراقبة المستمرة و عن كثب لانشطة و تحركات المشتبه في ميولاتهم المتطرفة  وعدم وضعهم تحت الحراسة المشددة و الصارمة، خاصة و انه سبق  لاحد منفذي الهجوم ان اعتقل بسبب تورطه في ارسال مقاتلين الى العراق وافعال اخرى ارهابية . ان حقيقة هذه المراقبة ،هي التي يؤكدها وزير الداخلية الفرنسي في تصريحه عقب الحادثة في كون "المشتبه بهم كانوا قيد المراقبة، لكن لم يكن هناك ما يدل على ان هناك ثمة هجوما وشيكا في طريقه للحدوث". وفي اطار ملاحظة تبريرية ،يرى اريك دينسي، مدير المركز الفرنسي لبحوث الاستخبارات "ان معرفة شخص ذو ميول متطرفة او ذو علاقة بجماعة جهادية لايعتبر ضمانا مطلقا لخضوعه لمراقبة مستمرة و دائمة" .  ان كل ذلك و بقوة يؤشر على سوء  مس حكامة المخاطر، و التي من المفروض ،ان تجعل نصب اعينها جميع الاحتمالات  وتطرح  امامها  جميع الفرضيات ، دون ترك المجال لادنى نسبة من الصدفة .                                    -        

   ثالثا:  الفهم الاستباقي للفاجعة:   عرف مفهوم "الاستباقية" ،كمبدا من المبادئ الاستراتيجية انبثاقه الارهاصي الاول، في ميدان السياسة الدولية، خاصة على المستويين العسكري و الامني :الامن  الجماعي ، الحرب ضد الارهاب، و الضربة الاستباقية . هذه الاخيرة  ،يعرفها اهل السياسة الدولية ،بكونها"التحول من الرد على هجوم فعلي الى المبادرة بالهجوم ،لمنع هجوم محتمل ،خاصة اذا تمكنت اجهزة الدولة من اكتشاف نوايا مبكرة بالهجوم لدى الخصم، بغض النظر عن مظاهر هذه النوايا". ان هذا المعطى الاستباقي، هو الذي اكد عليه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ،من خلال تصريحه ،عقب الحادث الاليم قائلا:" ان ضمان امن الفرنسيين مسؤولية على عاتق الدولة و تدخلنا في العراق و مالي كان لمنع وصول الارهاب الى فرنسا ،وان هناك تعاون استخباراتي مع حلفائنا لمواجهة الارهاب و توجد تحديات داخلية عدة، علينا مواجهتها بحسم".هذا الجانب الاخير، هو الذي يؤكد عليه ايضا وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف ،قائلا في هذا الصدد ان " الاحداث التي نعيشها تظهر اتساع التحديات التي نواجهها" .ولعل من ابرز هذه التحديات  على مستوى البعد الاستراتيجي للامن القومي الفرنسي، نجد ضرورة تبني اليات جديدة في التعامل الاستباقي مع الظاهر ة الارهابية ،ومنها: ضمان امتداد توظيفية مفهوم الاستباقية الى ميدان الامن الداخلي على صعيد مجابهة المخاطر الامنية الواقعة والمحتملة ،من خلال ارساء حملات استباقية قادرة على تجفيف الظواهر الاجرامية -ومنها الارهاب -من الينابيع و التحكم في عوامل نشوئها قبل عوامل حدوثها ،وايضا الحرص وفي اطار استباقي على اذماج شباب الهوامش في المنظومة الاجتماعية الفرنسية وعدم ترك المجال سانحا امام غرس بذور الكراهية  والعداء و الاقصاء، ومنح جميع الفئات الهشة عموما والشباب خصوصا فرص للارتقاء الاجتماعي  و الثقافي و الفني) المعروف على ان احد منفذي الهجوم وهو شريف كواشي  كان مولعا بفن الراب( ،وايضا تبني خطة استباقية للمواءمة بين مفاهيم الدين و اللائكية، حرية التعبير واحترام المعتقد ، الوئام الاجتماعي ونبذ الكراهية ،واخيرا استشراف البعد الاستباقي ،عبر الرفع من اليقظة والحذر و التوقع و التنبؤ المستمر و المتواصل و اللامتوقف) نعلم جيدا ان الحادثة وقعت بعد ايام قليلة من انتهاء احتفالات اعياد الميلاد، و التي عادة ما تعرف   اقصى درجات و اعلى مستويات  الحيطة و الحذر مقارنة مع الايام العادية التي قد تعرف بعض التراخي و هو الشيء الذي استغله منفذي مذبحة شارلي ايبدو( .                    

     رابعا : الفهم الاستخلاصي للفاجعة :  عند نشوء المخاطر و انبثاق اثارها يصبح من اللازم التاسيس لنمط تفكير معمق، يتوخى تقديم القراءات المتعددة المستويات للمخاطر: الاسباب ،النتائج، التقييمات .وهي القراءات القمينة ،بجعل المسؤولين يقفون امام انفسهم وقفة تامل و مراجعة الذات و ضبط الحسابات و اخذ العبر و استخلاص الدروس، باعتبار كل ذلك خطوة استشرافية نحو المستقبل ووضع التشخيصات الضرورية للاثار الناجمة عن المخاطر المباشرة و الغير المباشرة و جعلها مع مرور الزمن مخاطر متحكم فيها ،مع امكانية ضبط التعامل معها على مستوى الاسباب و النتائج. ان كل ماسبق يمكن ان نستشفه من خلال تصريح الرئيس الفرنسي التالي:"فرنسا  ضربت في الصميم ، فرنسا تتعرض الى صدمة بسبب  حادثة شارلي ايبدو، وهناك تحديات داخلية ، علينا مواجهتها بحسم و حزم"،باعتبار ذلك اول درس يجب ان يستقى من الفاجعة ،وهو الدرس المتمثل في مراجعة الذات ، بعد الاستقياظ من الصدمة و تفادي النظرة الضيقة والفكر الاختزالي حول الاسلام ،وعبر ذلك ضرورة الابتعاد عن كل ما من شانه، ان يمس بسوء الجاليات المسلمة المقيمة بفرنسا ،من حيث الهجومات الانتقامية و تبني مقاربة جديدة في التعامل مع المسلمين، من ابرز اسسها عدم الخلط بين الاسلام و الارهاب و تجاوز سلوكات الاسلامو فوبيا )وهو مايفسر خطاب هولاند حول ضرورة الفصل بين  الاسلام و الارهاب(، رسم معالم حكامة امنية جيدة، كفيلة بتقييم وتقويم القدرات التدخلية للاجهزة الامنية، لجعلها تتفوق على قدرات الجماعات الارهابية ،و عدم ترك المجال سانحا  امام الثغرات  الممكنة و اوجه القصور المرصودة ، ارساء لبنات صرح حكامة مخاطر وجيهة تنتقل من تدبير الازمة الى تدبير المخاطر.          

    هذه من وجهة نظرنا، هي بعض القراءات الممكنة و اسباب الفهم المتاحة حول فاجعة شارلي ايبدو  المؤلمة ،و ربطنا اياها  بالحكامة ،مرده اساسا الى كون الارهاب كظاهرة مقيتة ،يشكل ابرز المخاطر المحدقة  بهذا النمط المتطور من التدبير و القادر بدوره على الضرب بيد من حديدعلى الظاهرة التي تسول لنفسها تهديد مستقبل البشرية جمعاء وتدميرها في العمق.

د محمد البكوري باحث في الحكامة