طيب، التونسيون أدركوا أن حركة النهضة ضربت عصفورين بحجر، عندما تقدمت إلى الإنتخابات التشريعية بقائماتها هي، دون أن تدخل في أي تحالف، قديما كان أو جديدا، اللهم بعض من وُصفوا بالمستقلين الذين زينت بهم بعض القوائم، من نوع رجل الأعمال محمد الفريخة.

فقد نزعت الحركة بذلك ورقة التوت عن حليفيها الأقربين ، حزب المؤتمر وحزب التكتل. حيث لم يحصل الأول حتى على عدد أصابع اليد الواحدة من مقاعد مجلس نواب الشعب، فيما خرج الثاني منها صفر اليدين! 

وبعد أن مرغت هكذا أنفي حليفيها، منصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر في التراب، عادت واحتضنت أكثرهما إخلاصا ووفاء لتعليماتها، وأوصت به أتباعها خيرا في الإنتخابات الرئاسية، ولكن في السرية، على طريقة الزواج العرفي! فارتفع رصيده الإنتخابي من أصوات الناخبين، من دائرة 1% في الإنتخابات البرلمانية، إلى فلك 33% في الرئاسية!

طبعا، لم تنزل الملائكة ولا الجن لتصوت له، وإنما هو قرابة رصيد حركة النهضة وأخواتها في الإنتخابات التشريعية تم تحويله إلى حسابه، والإحتفاظ بالباقي للدور الثاني، إذا تطلب الأمر دعما إضافيا.

هذا كله أصبح معلوما، من التونسيين ومن الملاحظين في كل العالم!

ولكن لماذا أعلنت حركة النهضة أنها ستلزم الحياد ولن تدعم أيا من المترشحين للرئاسة، ثم دعمت سرا منصف المرزوقي، بل إنها تكفلت حتى بتنظيم حملته؟ ثم، بماذا تعهد رئيسها لرئيس حركة نداء تونس في اجتماعهما الأخير عشية انعقاد مجلس شورى النهضة للبت في مسألة الدعم من عدمه لأحد المترشحين؟ بل ماذا دار أصلا من حديث في ذلك اللقاء؟

لنغض الطرف عن هذه التساؤلات، ونقف عند إعلان حركة النهضة الرسمي فور اجتماع مجلس شوراها، إنها لن تدعم أيا من المترشحين للرئاسة، ثم سربت الإشارة لأتباعها بوجوب التصويت لمنصف المرزوقي.

إن ما كان يمنعها من إعلان مساندتها له علنا من البداية، هو من ناحية، الخوف من تحفز منافسيه أكثر، وبالذات رئيس حركة نداء تونس، وتسليط سهامهم عليه كقوة تنوب حركة النهضة، وليس كمرشح فشل حزبه في الإنتخابات التشريعية في الظفر بسدس ماحصل عليه من مقاعد في المجلس التأسيسي، في انتخبات اكتوبر 2011 . أي إنها لعبت على عنصر المباغتة. ومن جهة ثانية، فعلت حركة النهضة ذلك طمعا في أن يمتدح مرشح حركة نداء تونس في حملته الإنتخابية صنيعها "الراقي المحترم"، بملازمتها الحياد، ويبشرها، إن لم يكن بالتحالف، فبالتشاور المتبادل في كل مايهم شؤون الدولة، وهو مافعله! في غضون ذلك تكون حركة النهضة قد ضمنت إطلاق العنان لبوقها الأمين، منصف المرزوقي، ليتوعد وينذر ويدعو علنا الإرهابيين إلى توجيه أسلحتهم إلى "الطواغيت" الحقيقيين، أي رموز حركة نداء تونس، بدل الجنود وأعوان الحرس والأمن..

هذان الوجهان في التعامل لحركة النهضة، لم يفاجآني، لأنهما العلامة التجارية المميزة للحركة منذ القديم. الإعلان شيء، والإضمار أو التطبيق شيء آخر، على النقيض من الأول!

أما الآن، والناخبون مقبلون على دورة ديسمبر من هذا الإمتحان الإنتخابي، هل هناك أمل بأن يرفع المولى الغشاوة عن بصائر الكثيرين فيروا الحقائق بأعينهم وضمائرهم، ويسائلوا الأنفس هل فعلا كان المرشح منصف المرزوقي في مستوى منصب رئيس للجمهورية التونسية طيلة السنوات الثلاث الماضية وتزيد، حتى يجدد له الناخبون الثقة لمدة أطول؟ 

بكامل الموضوعية، هل كان قرار قطع العلاقات مع سوريا التي يقيم فيها آلاف العائلات التونسية، كان قرارا ينم عن حكمة رجل دولة؟ ألم يكن بالإمكان الإعراب عن الأسف لما يجري من أحداث أليمة في الشقيقة سوريا،والإمتناع عن أخذ موقف محدد، لأن تونس منكبة حينها على ترتيب شؤون بيتها بعد الإنتفاضة الكبرى؟

أكان من الحكمة أن يدين رئيس الدولة من أعلى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ثورة 30 جويلية المصرية الثانية التي جمعت ملايين المواطنين المصريين، يقارب الثلاثين، وفوضت للجيش المصري أخذ زمام الأمور، فيصف ذلك بالإنقلاب؟ ماضر لو عبّر، بدلا عن ذلك، عن أمنياته للشعب المصري الشقيق بأن يجتاز الصعاب التي يمر بها في أقرب الأوقات وتعود لأبنائه وحدة صفوفهم ؟ 

فكيف كان إحساسه، وقد رحبت أمريكا بعد فترة وجيزة بالنظام المصري الجديد؟ وقد صدع الرئيس الأمريكي منذ أسابيع قليلة بالقول إن العلاقات مع مصر تعتبر حجر زاوية في المنطقة. وماهو شعوره عندما سمع ورأى الرئيس الفرنسي بالأمس يعبر للرئيس السيسي عن تأييده الكامل ويدعو أصحاب الأعمال الفرنسيين بأن يستثمروا بكثافة في مصر، وهو نفس ماجرى في روما مع المسؤولين الإيطاليين؟

هل من حكمة الرؤساء الذين يرفعون شعار النضال الحقوقي والديمقراطي، أن يغطوا على جرائم النهب والحرق، وأن يغضوا الطرف عن خطب هتك الأعراض والحث على التباغض، من منابر المساجد ومن تحت قبة المجلس التأسيسي، وعلى اغتيال المناضلين الشرفاء وأبناء الجيش والأمن والحرس، والإكتفاء بإعلان الحداد تلو الحداد؟ ثم استقبال المتهمين بكل تلكم الأعمال في قصر الرئاسة بقرطاج؟ هل من شيم الوطنيين، قبل أن يكونوا رؤساء وبعد، أن يجيبوا عند التنبيه بأن السلاح يكدس على طول البلاد وعرضها، بأنه ليس صحيحا، وحتى إن كان، فلربما ليوجه إلى صدورالأزلام؟

وهل من كرامة التونسي قبل أن يكون رئيس دولة ذات سيادة، أن يقبل أن ينعته، رئيس آخر على رؤوس الملأ، بأنه لايحذق بروتوكول السلام، وأنه بصدد تعليمه إياه؟؟

هل من خصال مناضل حقوق الإنسان أن يقول "إذا صعد العلمانيون إلى سدة الحكم فستنصب لهم المشانق"؟. وقد كررها في حملته الإنتخابية عندما دعا الإرهابيين بأن يوجهوا أسلحتهم إلى صدور "الطواغيت الحقيقيين"، وذلك في سياق تسويقه لفكرة عودة النظام القديم، تحت غطاء حركة نداء تونس والباجي قايد السبسي. 

هل من صفات رئيس كل التونسيين، ولو بصفة مؤقتة، والطامح للرئاسة الثابته، أن يصطحب في حملته من دعا إلى الفتنة وإلى تسفير الشباب التونسي إلى أتون حرب لاناقة له فيها ولا جمل، ومن كفر عباد الله؟ وكذلك أولئك الذين توعدوا التونسيين بحمام دم إن فاز الباجي قايد السبسي في انتخابات الرئاسة؟

وفي الأخير، لو كان فيه خير، ولو عمل خيرا للوطن لجناه في الإنتخابات البرلمانية. ففيها كافأه الشعب على قدر فعله.

ثم، بعدما ضخت حركة النهضة في عروقه نبض الحياة بإمرة أتباعها بالتصويت إليه، هل تنتظرون منه مواقف وسلوكات أفضل من التي أتاها خلال الرئاسة المؤقتة؟

إنه قد أمضى هكذا تجديد عقد بيع نفسه إلى حركة النهضة لتفعل بها ماتشاء. وأول ماتشاء النهضة في الفترة القادمة هو تعطيل كل أعمال الحكومة وتهيئة الظروف لحل مجلس نواب الشعب ! 

فقد قلّبت حركة النهضة الأمور على كل الأوجه من أجل ضمان اقتلاع منصب رئاسة الدولة لمن تثق فيه ولايعصي لها أمرا،، فلم تجد أطوع لها من منصف المرزوقي لتنفيذ أوامرها طبق ماترسم هي من خطط. وقد سبق أن جربته فصح، وكان لها في السنوات الثلاث الماضية خير أمين، وللدولة أفضع مهين!

أبعد كل هذا، وكل هذا بنظري واضح جلي لغالب التونسيين، مازال هناك من المواطنين من ستنطلي عليه الحيلة والشعوذة، ويصوت للمنصف المرزوقي في دورة ديسمبر ؟؟

أليس من المفروض، إذا عُرف السبب بطل العجب ؟