برهان هلّاك

لا يفوت الجزائر في العادة أن تكون على اطلاع، بل وتدخل على الخط المباشر في التطورات السياسية التي تصاعدت وتيرتها نحو التأزم في "الشقيقة الصغرى" تونس، إذ تراقب أطراف جزائرية كثيرة منها الرسمي وغير الرسمي الأزمة في مسارات تعقدها ومآلاتها. ويبرز وراء ذلك سببان مهمان يتمثل أولهما في المخاوف الجزائرية من حدوث ارتدادات وهزات قد تضرب الداخل الجزائري في العمق، لا سيما وأن الأمر يتعلق بدولة تونس بما هي مجال حيويّ بالنسبة للجزائر على أصعدة مختلفة، أمنية وسياسية واستراتيجية. أما ثاني تلك الأسباب فهو يخص الرهانات الإقليمية للجزائر في علاقة بصراعها التاريخي مع المغرب الأقصى، فالجزائر ترغب في الحفاظ على التقارب مع تونس في مواجهة خلافاتها المستمرة مع المغرب حول عدد من القضايا الإقليمية القديمة والمتجددة.

توجه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بدعوة رسمية للرئيس التونسي قيس سعيّد والاتحاد العام التونسي للشغل ممثلا في شخص أمينه العام، نور الدين الطبوبي، للمشاركة في احتفالات الجزائر بـعيد الاستقلال في 5 جويلية الجاري. وهو ما يعتبر محاولة للانخراط في الأزمة التي ظهرت مؤخراً بين الطرفين الذين تمت دعوتهما؛ وإن لم يذكر البيان الرسمي الصادر عن الرئاسة الجزائرية مضامين اللقاء الذي جمع الرئيس تبون بالأمين العام لمنظمة الشغل التونسية في 6 جويلية الجاري ليكتفي بالإشارة إلى أن مراسم الاستقبال جرت بحضور كل من الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين سليم لبطاشة و مدير ديوان رئاسة الجمهورية عبدالعزيز خلف، فإن الآراء حول هذا اللقاء تتفق تقريبا على ارتباطه بالأزمة السياسية التي تعيشها تونس ورغبة الرئيس الجزائري في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء عبر محاولة ”الوساطة” لإنهاء الوضع المتأزم.

أتمنى كل الخير للأشقاء في تونس، وأتمنى أن يلقى الدستور المقبل إقبالاً كبيراً من التونسيين”، هذا ما ورد على لسان الرئيس الجزائري في ذلك الحين. ولكن مجريات الأمور الباطنة تكشف عن واقع يتجاوز التمني والرجاء؛ لقد اختارت الجزائر التفاعل مع الأوضاع التونسية بشكل مباشر منذ أيام قليلة بعد إعلان التدابير الاستثنائية في 25 جولية الماضي، حيث سارعت بالالتصاق قدر الإمكان بالأحداث عبر الاتصالات التي تمت بين الرئيسين تبون وسعيّد، بالإضافة إلى الزيارات المتكررة لوزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، إلى تونس. ليس ذلك بالمستغرب تاريخيا، فتونس كما أشرنا هي مجال حيوي تاريخي للجزائر باعتبار استيهامات المخيال السياسي الجزائري التي تعتبر السواحل التونسية امتداد لإشراف الجزائر على الضفة الجنوبية للمتوسط. وتمثّل تونس خاصرة آمنة ومجالا سمته الاستقرار في ظل محيط إقليمي مضطرب منذ السنوات اللاحقة لسنة 2011.

في الحقيقة، يفهم هذا التدخل الجزائري المباشر عبر "إصلاح ذات البين" بين الفرقاء السياسيين التونسيين بهاجس مفاده إحكام الطوق الإقليمي حول رقبة الجزائر في ليبيا التي تشهد صراعات لا يبدو للأسف أنها ستنتهي قريبا، وخيارات صدامية للقيادة السياسية في تونس غير معلومة العواقب. وينضاف إلى هذا الطوق شبه حصار اقتصادي تضربه المغرب في الغرب، وعلاقة مأزومة إلى حد ما مع فرنسا في الشمال، وتنامي نفوذ القوى التركية والروسية في مجالات التحرك الجزائري الاعتيادية. وفي ظل تعاظم عدم الاستقرار الداخلي من حين لأخر، تشعر الجزائر بالقلق من التضييق على مصالحها، بل وحتى استغلال بعض القوى لإمكانياتها في تغذية الميولات الانفصالية.

من هذا المنطلق، تنشد الجزائر الحفاظ على التقارب مع تونس في مواجهة خلافاتها المستمرة مع المغرب على سبيل المثال؛ لقد تزايدت مخاوف الجزائر وأصبحت جدية إثر قرار المغرب بالانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية في ديسمبر 2020، والتي سمحت بتطبيع العلاقات الكاملة بين المغرب وإسرائيل مرورا عبر جسر اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المملكة المغربية على الصحراء الغربية المتنازع عليها أمميا.

في هذا السياق، قال الكاتب والمستشار السابق للرئيس الراحل هواري بومدين، محيي الدين عميمور، أن الجزائر منتبهة إلى تطور الأزمة في تونس، وإلى تدخل قوى إقليمية في الشأن التونسي والضغط لتوجيه الأحداث إلى اتجاهات معينة قد لا تصب في مصلحة الجزائر، ضمن محاولات متعددة لمحاصرة الجزائر بمزيد من الأزمات في الجوار. وهذا كفيل بإيضاح المعنى الحقيقي لتصريحات الرئيس عبد المجيد تبون في وقت سابق من سنة 2022 المشيرة إلى إن أمن الجزائر من أمن تونس. ولذلك فإن الدبلوماسية الجزائرية تقوم بفعل ما يلزم لمنع ذلك بطرق غير معلنة في أغلب الأحيان.

وتجنّب الرئيس الجزائري خلال زيارة إلى تونس في ديمسبر 2021 أي حديث عن دعم خيارات سعيّد أو إظهار ذلك. كما كان حذراً في تصريحاته بشأن الوضع الداخلي في تونس، خصوصاً أن التقارير التي كانت تبلغ مؤسسة الرئاسة في الجزائر كانت تشير بوضوح إلى أن قوى أجنبية تحاول الإحاطة بالمتغيّرات في تونس، وهو أكثر ما يقلق الجانب الجزائري. ومن أهم هذه الأطراف الأجنبية الطرفان المغربي والمصري

أما الجانب المصري فقد كان ميالا إلى تجربة اجتثاث لوجود قوى الإسلام السياسي الإخوانية بتونس، على شاكلة ما حدث في مصر منذ سنة 2013. وكان وزير خارجية الجزائر، رمطان لعمامرة، قد إلتقى وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في جانفي الماضي، وقد تم الإعلان عن أن الملف التونسي قد كان من بين الملفات التي تمت مناقشتها خلال هذا اللقاء؛ يشير مقال بالعربي الجديد إلى أن ذلك يعني أن الجزائر على علم بتدخلات مصرية في الوضع في تونس. وهو ما يفرض عليها إبلاغ القاهرة بالشروط الجزائرية لمثل هذا التدخل، خصوصاً في ما يتعلّق برفض الجزائر تطبيق سياسات استئصالية في تونس قد تثير قلاقل واضطرابات تجد نفسها فيها معنية بتبعاتها كدولة جارة، لا سيما أنها تحملت أعباء أمنية خلال السنوات الماضية في مجال مكافحة الإرهاب على الحدود بين البلدين. ومن ثمة، يتوضح الانشغال الجزائري بالوضع في تونس والذي بلغ مبالغ عظيمة باتت تحتّم اشتراط ألا يعرّض تدخل القوى الدولية في الشأن التونسي الجزائر إلى أي متاعب أو قلق من أي نوع.

أما في ما يتعلق بالمغرب، فالجزائر ترغب في الحفاظ على التقارب مع تونس في مواجهة خلافاتها المستمرة مع المغرب في عدد من القضايا، وفي مقدمتها القضايا الإقليمية من قبيل قضية الصحراء الغربية والمشكلات المثارة مع المغرب بشأنها في ظل تنامي الوجود العسكري الأجنبي في الساحل الأفريقي. ويبدو أن هذا الخيار ناجح بشكل ملحوظ إلى حد الآن باعتبار "الجمود الديبلوماسي" الذي يسم العلاقات الثنائية التونسية ـ المغربية؛ رغم الأزمة المتأجّجة بين الأطراف السياسية التونسية، لم تستقبل تونس إلا زيارة وحيدة من وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، جاء خلالها برسالة من الملك المغربي، محمد السادس، فحواها تأكيد على "التضامن المغربي مع تطلعات الشعب التونسي نحو الاستقرار".

يخشى المسؤولون في الجزائر من مستقبل يتم فيه الإطاحة بالدور الجزائري في تونس والمنطقة ككل. كما تخشى الجزائر من ميل السلطة نحو الرئيس وما يمكن أن ينتج عنه من تشكل تصوّر مختلف للسياسة الخارجية التونسية يمكن أن يتسبب في مسار عمل استراتيجي مختلف في المنطقة. ولذك فإن "الوساطات" والتدخل الجزائري لن ينتهي على الأمد المنظور، على الأقل حتى انقشاع مأمول للضباب الرابض على المشهد السياسي التونسي بعد الاستفتاء على الدستور التونسي الجديد في 25 جويلية 2022.