سرت هي قلب ليبيا الذي يضم جناحي الوطن الشرقي والغربي إلى بعضهما العض، وهي المدينة التي تجسدت على ثراها معاني الوحدة الوطنية، قديماً في معركة القرضابية الخالدة التي خاض غمارها الآباء والأجداد ضد جحافل الاستعمار الإيطالي عام 1915. وحديثاً عندما كانت شاهدة على آخر فصول المقاومة البطولية لمؤامرة الربيع المزعوم عام 2011. واليوم، وهي تستقبل طلائع القوات المسلحة العربية الليبية، وتلتحم بها، وتنتصر على سجانيها؛ من الميليشيات الإرهابية التي جثمت على صدرها قرابة عقد من الزمان، وتنفض عن وجهها المشرق غبار القهر والذل الذي أراده العملاء لها. إن انتصار القوات المسلحة لسرت وفيها ليس مجرد عمل عادي يمكن أن يمر مثله مثل أي حدث عابر. لكنه حدث مفصلي تاريخي له أبعاده المعنوية والعملياتية التي لا يمكن حصرها في هذا الجيز. 

إن ما تعرضت له مدينة سرت وأهلها من نسف وتدمير لكثير من معالمها التي شهدت أحداث تاريخية جسام كان لها أكبر الأثر في مجرى السياستين الدولية والإقليمية، وما تعرض له أهلها من ظلم وتجبر المليشيات الإرهابية والجهوية، التي لم تألوا جهدا في تضييق الخناق عليهم، وإرهابهم وتقتيلهم وصلبهم على أعمدة الكهرباء في تقاطعات الطرق، وتشريدهم وسلب أرزاقهم وملاحقتهم بشتى السبلً. لم يكن عملاً عبثياً أو عشوائياً، بل كان جزءاً أساسياً ممنهجاً من المؤامرة الكونية على ليبيا الكيان والإنسان. فقد كان حقداً يستهدف تسفيه كل الجهود التي بذلها الليبيون خلال العقود الماضية، والتي توجت بالكثير من الإنجازات السياسية والمادية. ومن أهدافه أيضاً إفقاد الليبيين الثقة في أنفسهم وفي قدرتهم على الفعل تحت كل الظروف. والهدف الإستراتيجي فوق هذا وذاك، هو إجبار الليبيين على الرضوخ والاستسلام وقتل إرادة المقاومة والفعل الخلاق فيهم تمهيداً لإلحاق هذه البلاد بإمبراطورية الإسلام السياسي الإخوانية الأردوغانية. ولذلك، فإن تحرير سرت من الدنس والأنجاس لا يمثل إعادة اعتبار لسرت وأهلها فحسب، بل لفصول شديدة الأهمية في تاريخ ليبيا الحديث، ولمساهماتها الفاعلة في مسيرة العرب والأفارقة وشعوب العالم الثالث طبلة العقود السابقة. كما أن تحرير سرت يعني من بين ما يعنيه، إعادة الاعتبار لآخر معاقل الشرف والمقاومة الباسلة ضد حلف الناتو وعملائه، إبان غزوه البربري الغاشم لليبيا عام 2011، ويساهم مساهمة فعالة في جسر الهوة التي أحدثها ذلك العدوان بين أبناء الشعب الليبي الواحد.

لقد كان سقوط سرت في قبضة مليشيات الجريمة والإرهاب طوال السنوات الماضية يمثل تقسيما جغرافياً وسياسياً واقعياً وعملياً لليبيا بين شرق وغرب، وهو الهدف الذي سعى الكثير من العملاء وأعداء الشعب الليبي لتحقيقه. فباحتلال سرت أصبح التواصل بين جناحي الوطن شبه معطل لسنين، الأمر الذي سبب آثاراً نفسية عميقة وزرع الريبة والتوجس في قلوب الليبيين تجاه بعضهم البعض. ناهيك عن تأثيراته الاقتصادية المدمرة المتمثلة في عرقلة انسياب السلع والتجارة ومصالح الناس المختلفة. لذلك فإن تحرير سرت لم يفتح الباب الذي كان موصدا لفترة طويلة بين طرفي الوطن فحسب، بل ومهد الطريق لإعادة التواصل بين الأهل في كل مناطق الوطن، ورتق النسيج الاجتماعي والمجتمعي الذي تأثر بفعل هذه الجفوة المفروضة. كما أنه أزاح كل العقبات المصطنعة التي عرقلت التواصل البيني بكل أنواعه. أما الأهم من كل ذلك، فهو القيمة المعنوية والعملية الكبيرة المتمثلة في وأد أحلام دعاة التقسيم وشبه التقسيم من بين الليبيين ومن غيرهم. فلقد اثبت التحام سكان مدينة سرت بقواتهم المسلحة، قدرة الليبيين على التسامي على جراحهم أمام مصلحة الوطن، وأكدوا أن ليبيا دولة واحدة لا تقبل القسمة، وأن الليبيين شعب واحد لا يقبل التقسيم.

لقد كان الميليشياويون ومشغلوهم يطمحون لتوظيف مدينة سرت في إستراتيجية تدمير الوطن وذلك باستخدامها قاعدة انطلاق لتنفيذ أهدافهم الخبيثة المضادة لمصلحة الشعب الليبي. فمنها انطلقوا إلى غزو الهلال النفطي عديد المرات ودمروا خزانات النفط في السدرة. ومنها كذلك ينطلقون لاحتلال وتخريب الجنوب الليبي، ويعولون عليها كقاعدة للدفاع عن بعض قواعد ومراكز الميليشيات في بعض مدن المنطقة الغربية. وهنا تكمن أهمية تحرير مدينة سرت. لقد حرم الجيش الليبي من خلال استرداده لمدينة سرت، الميليشيات من التمتع بمزايا هذه البقعة الإستراتيجية واستخدامها كخنجر في خاصرة الوطن. بل إن تمركز الجيش العربي الليبي في هذه المدينة يمكنه من القدرة على تحريك وحداته في كل الاتجاهات متى ما دعت الضرورة لذلك. وبهذا لم تعد المليشيات قادرة على الاستفادة من أية مزية إستراتيجية يوفرها هذا الموقع الهام.

لهذه الأسباب ولغيرها، فإن عودة سرت لحضن الوطن هي عودة الوطن كل الوطن إلى أهله. وهي قطع للطريق على العابثين بأمنه ووحدته الوطنية وسلامة أراضيه. لقد أراد الأعداء أن تكون سرت شوكة في خاصرة الوطن، وأراد أبناء ليبيا أن تكون سرت جسراً للوحدة الوطنية ومثابة للأمن والسلام وحجر زاوية في كيان ليبيا الجديدة، دولة الليبيين كل الليبيين. فكان لأبناء ليبيا ما أرادوا حين هبت جحافل جيشهم في بضع ساعات وافتكت سرت من آسريها ومغتصبيها، وهزم المشروع التآمري الميليشياوي الذي أراد لسرت أن تكون قاعدة وأداة لأطماعه.

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة