ما يأتي هذه الأيام على لسان أحمد قذاف الدم أحد أبرز أركان النظام الليبي السابق يشير بوضوح الى أن السياسة موهبة وحرفة وقدرات وذكاء ، والسياسي المحنّك هو الذي يعرف ماذا يقول ومتى وكيف ، والى من يتوجّه بحديثه ، وماذا يريد من وراء الكلمات الجارية على لسانه 

قذاف الدم الذي تحدّث من أيام الى تليفزيون دريم المصري ثم الى إحدى الإذاعات التونسية ،وقبل ذلك الى وسائل إعلام عربية ودولية عدّة ، عرف كيف يتجاوز الخطاب العاطفي المتأجّج ليصل الى النتيجة الحتمية وهي ضرورة إجتماع الليبيين حول طاولة حوار واحدة لإنقاذ ما تبقى من بلادهم وثروة وطنهم ووحدة شعبهم المظلوم والمهموم والمحروم ، حيث وبإستثناء العصابات الإرهابية التكفيرية يمكن لليبيين جميعا أن ياتقوا حول مشروع وطني ، على أن تقوم الدولة لاحقا ، وفي إطار مؤسساتها الشرعية بمقاضاة كل من تورّط في سفك دماء الليبيين ، وعندئذ يمكن للدولة أن تتنازل عن حقوقها وتترك الأمر للفعاليات الإجتماعية كي تقرّر مصير المتهمين بما تراه صالحا في إطارالشرع والاعراف والعادات 

ولكن ذلك لا يتحقق حتما إلا بشروط عللى الجميع الإتفاق عليها بدءا منها عودة المهجّرين في الخارج والداخل وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين في سجون الميلشيات ثم إقرار مشروع وطني للتعويض لأسر الضحايا وإعلان مشروع مصالحة وطنية يتم من خلالها فرز الصفوف بين من هم مع ليبيا ومن هم ضدهّا 

قذاف الدم أكد أن المطلوب خلال المرحلة القادمة تجاوز شعارات فبراير وسبتمبر ، فالوطن فوق الجميع ، وليبيا أكبر من الأسماء العابرة حتى وإن كانت لشخصيات صنعت التاريخ ، والمكابرة لا تنفع لا في المرحلة الحالية ولا في المستقبل ، والإعتراف بالخطإ فضيلة ، ونظام سبتمبر أرتكب أخطاء تبرز بالأساس في أنه سمح بحصول ذلك الإختراق الرهيب لمؤسساته من قبل عناصر سرعان ما تخلّت عنه بل وخانته وباعته في سوق التئامر الدولي مع أول عاصفة هبّت على شرق البلاد في فبراير 2011 ، كما أن النظام السابق عرف من الفساد من ما جعله يتعرّض لحرب مدمرّة بمال الدولة الذي ذهب لرجال أعمال فاسدين ومتئامرين ، في حين لم تجد ليبيا من المدافعين عنها بدمائهم غير الفقراء والبسطاء والمحرومين الذين مازالوا الى اليوم يقبضون على الجمر ويضحون بأرواحهم في الداخل ويعانون من مأساة التهجير القسري في الخارج 

ولكن أخطاء النظام مهما كان حجمها لا تصل الى مستوى الجريمة التي تم إرتكابها في حق ليبيا من قبل الفبرايريين الذي مارسوا كل أنواع التقتيل والتنكيل والتهجير والإقصاء والتخريب والتدمير والسطو والنهب واللصوصية والتبديد الممنهج لثروات الدولة والشعب والمجتمع ، وما شهدته ليبيا خلال أربعة أعوام  مضت يساوي ما عرفته خلال 100 عام من تاريخها ، والخيانات التي تعرّضت لها البلاد تفوق ما حصل زمن الإحتلال الإيطالي ، وتشير الى وجود خلل مجتمعي حقيقي له أبعاده الثقافية والحضارية والنفسية التي يجب أن تعالج بكثير من الحكمة والوعي 

لقد أكد أحمد قذاف الدم على ضرورة أن يتوحد الليبيون من جديد وأن يختاروا في ظل المصالحة الوطنية شكل النظام الذي يريدونه سواء كان ملكيل أو جمهوريا أو جماهيريا كما أراده الزعيم الراحل معمر القذافي ، فعندما تتحرّر الإرادات يمكن للشعوب أن تقرّر مصيرها دون ضغط داخلي أو خارجي ، وعندما يتفق الليبيون على شكل الدولة وطبيعة نظامها سيكون لديهم مجال لإختيار زعمائهم الحقيقيين دون إقصاء لأي كان ، فشرط المصالحة أن لا إقصاء إلا لمن قرر إقصاء نفسه 

وموقف قذاف الدم هو موقف نسبة مهمة من الليبيين الذين يتحركون اليوم على كل الأصعدة وفي كل المستويات ، فلا حلّ بعد كل هذه الدماء والأحقاد الا بالمصالحة من أجل ليبيا وفتح صفحة جديدة تعطي لكل ذي حق حقه ، وعندئذ يمكن لأنصار القذافي أن ينافسوا على السلطة مثلهم مثل أنصار فبراير ، لتكون الكلمة لمن له رصيد أكبر من الناس 

قلت في البدء أن السياسة موهبة وحرفة وذكاء وهذا ما يتأكد من مواقف قذاف الدم .