774، 775، 776..بصوت خفيض كان ينادي على الأرقام - ويُعيد ترديدها صائحاً أحد معاونيه - يرتدي بدلة زرقاء ويضع صفاً من النجمات على كتفيه ويداه معقودتان خلف ظهره بشكل اقرب للاستعراض فلا سلطة له عليهم "كمشة الاوباش" المحيطين به عند باب المصرف ...  وصلنا لحافة البناية الملاصقة للمصرف وصار بالإمكان الان  متابعة ما يجري بشكل مباشر. 

لم يعد بأمكاني الوقوف ولا من اللائق استغلال كرسي اختى  طوال الوقت

فآثرت الجلوس في سيارتها المتوقفة منذ ليلة البارحة ملاصقة لسور مدرسة "الكوت" المحاط بصقالات الحديد لصيانتها لأكثر من ثماني سنوات والمقابلة لباب المصرف.... المشهد من هنا اكثر وضوح وقبح فالتجاوزات على بابك يا مصرف وتمرير المحسوبين على المليشيات المسيطرة على المصرف  يتم علانية ولا حول "للمطوبرين" بالضفة الأخرى التي تضم الرجال من الشباب والشيّاب الا إصدار بعض أصوات الاستنكار  والاستهجان المصحوبة بالتصفير  يقابلها افراد المليشيا بتكبر وصلاّفة أحيانا ... وبتجاهل وتسفيه أحياناً أخرى .... لكن التلويح بالهراوات السود بشكل استفزازي في وجه الرجال استخدم بشكل متواصل. 

قفلت الشباك لافتح التكييف لكنني عدت وفتحته لأسمع ما يدور حولي ... شباب يتم دفعهم يميناً ويساراً بالعصى في محاولة لتفريقهم من امام الباب  وآخرون يتهامسون عبر الهاتف  جية وذهابا سيدة بلا ملامح تتلكئ منادية  على أحدهم : هل بالإمكان منحي رقماً ... "هذا ما استطعت التقاطه" وما كان من الشاب الا أن  انتفض قائلاً : انا والله ما نخدم فيها الخدمة هذه !!!

انشغلت عنهم بصوت الشرطية اللذي تعالى فجأة وهي تدفع بفتاة حاولت التسلل للداخل بلا رقم !!! لتصب عليها وابل من السباب والتقريع على فعلتها المشينة ... الفتاة وان كانت نحيلة وصغيرة لكنها لم تسكت وبادلتها الشتائم مهددة بأنها لو كررتها ستقتلها!!! 

تطور الموقف وتجمع حولها افراد المليشيا وتزايد التدافع بينهم حتى خفت من ان يقتحموا علي السيارة.... الأنظار تركزت من كل الجهات على المتجمعين اللذين حاولوا إخافة الفتاة التي تراجعت وهي تتمتم باكية " يا كلاب الدم " 

لمحت أختي من بعيد تقترب من خط نهاية الرحلة فقفزت تاركة السيارة ودلفت وسط النساء لأقف جنبها... عادوا لعدّنا من جديد وأمرونا بالتوقف حتى يؤذن لنا بالدخول ، لاحظت بعض النساء يتجنبن الوقوف   تحت الحائط وعندما تذمرت لأختى من تصرفهن خشية ان يتطاول علينا احد الحراس فردت بسخرية ناظرة للأعلى" حيث أنبوب مجاري مثقوب تنساب منه المياه الملوثة لتتساقط علينا "  هاربين من الغولة طايحين في سلال القلوب"... 

تحسسنا أطراف عباءتنا الملوثة وتوقفنا قرابة ساعة أخرى  ننتظر و قطرات البول  تنساب ورائحتها تفوح على مقربة منا .....تقدمت خلف اختى ملبيين نداء الشرطية : هيا هيا هيا خفي روحك انت وياها.

ظلت خطواتي ثقيلة  وانا اتابع خروج المتلكئة  وكلي فضول لمعرفة من منهم "يخدم في هالخدمة!!!!" ...وما ان صعدت الدرجات الاولى لداخل المصرف حتى أمرنا شرطي أخر بالصعود للأعلى فطلبت منه ان أكون ضمن المجموعة الموجودة في الصالة الارضيّة لان قدمي تؤلمني وما عدت أقوى على الصعود فأومى لي بالموافقة وما ان تقدمت حتى دعّس علي أخر ككلب حراسة جائع ،  ونهرني: قتلك فوق !!! 

لم استطع الرد وعدت للدرج صاعدة ...غلبني دمعي وبكيت كما لم أبكي من قبل،  بكيت رضوخي وعجزي وقلة حيلتي ،بكيت حالي وما وصلنا أليه بكيت عدم ردي وقبولي أهانته وصياحه الغير مبرر بكيت صمتي بكيت من التعب والقرف والجوع والالم بكيت لانه السلاح الوحيد اللذي أمتلكه .... 

أثار منظر بكائي كل من حولي وأكثر المتعاطفين كان موظف المصرف الشاب اللذي أحضر لي الماء والمناديل وواساني واستجداني ان اسكت ، أختى عجزت عن فعل شيئ  لكنها ضمتني معلنة انها بجانبي كعادتها... 

!!! بقيت على هذا الحال حتى أفقت على وقع مصيبة أخرى .... حساب أختى بلا نقود ومرتباتها لم تودع بعد 

لكن تعاطف الموظفين معنا واحساسهم بأن ما حدث لايليق وبسبب عدم ايداعهم للحافظة في موعدها  وبأن وقوفنا كل هذه الساعات لا يحتمل هكذا نهاية.... 

قرروا  مساعدتها تجاوزاً وبتكتم وحولوا لها مبلغاً من حسابي حتى يكتمل الرقم المطلوب وسُلمنا  بعد مرور اكثر من نصف يوم ستمائة دينار لكل منا  قدمت لي أختى نصف ما صُرف لها هدية  تأخر تسليمها.... 

هذا ما حدث معي منذ فجر الثلاثاء الموافق 14/8/2018 وحتى منتصف النهار التالي.

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة