المسافة ما بين المستوصف وحتى اجد اختى في الطابور لايمكن تحديدها... الشارع ممتد وضيق تصطف السيارات على جانبيه وتملئ النساء الفراغ بينها متخذات عتبات البنايات المتراصة مقعداً والشرفات مظلات تحميهم من وهج الشمس وحرارتها فالنهار يسير على مضض لمنتصفه ولا يكفيهن إتّقادها الا بعض النسمات والسحب التي تهف بين الحين والآخر لتخفف من وطأة نهار اغسطس برطوبته الخانقة ... تتخد السيدة التي لامست كتفها وانا أسير من قطعة كرتون مروحة تحركها بيمينها بخفة وهي تردد : "عَل اقل ربي لطف بينا بها النسمة كان هذا راهو جفنا من العفن والتعسيل". "

واصلت السير حتى منتصف الطريق حيث المقهى المكتض رجال ونساء...لم تجدي رائحة البيض المقلي بالزيت الرخيص  والتي طغت على رائحة القهوة ولا تأفف الشاب الواقف على آلة إعداد القهوة العاطلة في دفعنا  لمغادرة المكان او النفور منه فهو المقهى الوحيد في الشارع الذي يوفر ماء وبعض الأطعمة . 

داعكتني احدى الفتيات وسبلّت عينيها للعامل المصري اللذي تفرغ لتلبية طلبها تنحيت جانباً مطبقة يداي في حالة ترقب قلبت مزاجي ... لم أتمكن من الحصول على" مكياتة"في المقابل قدم لي   العجوز صاحب القهوة كوب من الورق مليئ بالسكر المضروب بنكهة النسكافي وبعض الحليب الفاتر والمعد سلفاً ، أخذت كوباً لأختي وقنينتي ماء وخرجت. 

كانت اختى المستعدة دائما لمثل هذه الحالات تلوح بمروحة بيضاء وهي جالسة على كرسيها الأبيض البلاستيكي اللذي تجره معها كلما تقدم الطابور ... كانت ذابلة مددت لها الكوب فردت : مش قتلك صائمة !!! آها نسيت لكنه ليس يوم صيام وجهك يظهر عليه التعب والإرهاق .. انصحك بزيارة المستوصف وقياس الضغط والأفطار فهذا الْيَوْمَ سيكون طويلاً وهذا لا يرضى ربي ... تركت لي الكرسي بشكل تلقائي فهي تراني لا احتمل التعب والبهدلة وتؤثرني على نفسها وقدمت قهوتها وقنينة الماء لسيدة في الجوار  .. وبترددها المعتاد : زعمى !!! شجعتها السيدات من حولنا ورافقتها صديقتها التي تركت مكانها في الطابور وبقيت بجانبها، لأستلم الدور عنها لكن بلا مروحة... كنّا قد وصلنا للبناية الملاصقة للمصرف من الجانب الأيمن لكن الطابور كان متفرقاً ولا ينتظم الا عندما يعاود افراد الأمن الصياح مناديين بالأرقام ...لم يتجاوز الرقم الخمسمائة بعد ولا زال ينتظرنا الكثير حتى نقف استعداداً للدخول ، كانت رفيقات اختى اللواتي رافقنها حتى في المرة السابقة أنسات من جيلٍ أخر احداهن فرشت سجادتها على كوز" الشرشوش" الملقى على الطريق امام محل تحت الصيانة أما الرملة فقد سحبتها الأقدام وتناثرت من حولنا مخلفة آثار الغبار والأتربة على عباياتنا..... أخريات جلسن بجانبها على شكل حلقة خارجية لتلتفت كل منهن بإتجاه ..وفِي اتجاهي كانت هي ....الأخت الكبرى ، صائمة هي الأخرى يلفها حزن وصمت يدفعك للأنتباه لها وتحسس وجودها تنصت لحديثنا وثرثرتنا بلا رد الا فيما ندر لكن الكلمات القليلة التي نطقت بها تنم عن شخصية متعلمة ومثقفة ولها وزن .. كانت استاذة جامعية في اللغة العربية  في عمر متقدم ذكرني بمعلماتي اللواتي أكن لهن كل أحترام لينعكس على تعاملي معها ... تبادلنا حديث مقتضب رشح عنه أنها  تعول نفسها وأختيها... ما لفت انتباهي أيضاً عدد لابأس به من الأنسات اللواتي بلا عائل!!

عاد المليشياوي الوقح مزمجراً   على شرطية ترافقه : تي وقفيهم"الخراوات" فقفزت واقفة ورأسها في الارض لكنها خطّت ببطء وانكسار أمامي تبعتها ولَم اجد ما أفعله الا ربط وشاحي حول عنقي بعد ان تركته متدلي على كتفي وسحبت الكرسي تنفيذا للأوامر

تمدد الطابور من جديد مع تجدد الصيّاح علينا والتهديد وعدنا تقريباً للمربع الأول حتى اكتمل العدد المطلوب 570... ليتكرر المشهد  مرات ومرات ... غاب المليشياوي  الوقح هدأت الأوضاع وعدنا للتفرق .. تلوّحنا وخيباتنا من جديد وعدنا للثرثرة وعادت هي لصمتها...

الأراء المنشورة ملزمة للكاتب و  لا تعبر عن سياسة البوابة