واصل التونسيون التحديق في الشاشة بما بقي لهم من فضول وهم يتابعون آخر ظهور صحافي لزعيم حركة «النهضة» المثير للجدل الشيخ راشد الغنوشي مساء الأحد الماضي.. وواصل الرجل رسم صورته الجديدة باجتهاد، مضيفا بعض الألوان على الأسود والأبيض اللذين التصقا بتلك الصورة منذ سمع الناس به لأول مرة في أواسط الثمانينات.
في تلك الليلة كان الشيخ دعوبا لا يضن بالابتسامة ويصل إلى حد الضحك البواح.. كان يبدو سعيدا بطاقم أسنانه الجديد. وهو يعترف بإدراكه -بعد النزول في تونس- أن الملبس والمظهر أمران مهمان لصورة الشخصية العامة.. تحسر أيضاً لأنه لم يعط للفنون وللسفر في حياته القدر اللازم لها.. كما اعترف بأنه كان مخطئا عندما استقبل مبعوث الاتحاد الأوروبي في بيته وهو ينتعل شبشبا!
اعترافات الشيخ الغنوشي لم تقف عند فجاجة الشكل، فقد عدد أخطاء «النهضة» بلا مداورة أحيانا.. وحسب له المتفرجون ليلتها عدة تراجعات (مراجعات) يفضل أن يسميها «سياقات غير منزلة».. من أهمها أن مطلب «تحصين الثورة» ليس مهما الآن... وأن حزب «نداء تونس لم يعد العدو الأول للثورة» ولا «أخطر من السلفيين» كما كان يقول قبل سنة، بل إنه «حليف وارد».. كما نال اتحاد الشغل نعت الشيخ له بـ «الحريص على المصلحة الوطنية» بعد أن كان «حاضنا للميليشيات».. لكن السياسة خانته عندما وارب في الترحم على روح الزعيم الحبيب بورقيبة بتعويم الرحمة التي «تسري على جميع المسلمين»، فأغرق السمكة وأهدر الفرصة، لكنه بحساب «السياقات» أحرز تطورا نسبيا مقارنة بيوم رفض فيه الترحم أصلا على «المجاهد الأكبر»!
«السياقات» الجديدة أوصلت الشيخ ليلتها إلى القول بأن «النهضة» تغيرت بفعل «الواقع التونسي الضاغط»، وأنهم في الحركة اختاروا تونس على الحزب.. مع حديث مرسل ومطنب عن «القانون والديمقراطية والمصلحة الوطنية».
كنت قد كتبت يوما في هذا المقام «حمدا لله على السلامة يا شيخ»، فأن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبداً.. ويبدو أن زعيم «النهضة» قد اكتشف على مدى السنوات الثلاث الماضية أن تونس على الأرض ليست كما كان يراها من خلال «جوجل إيرث».. وقبله كان الحال يتكرر مع الذين قدموا إلى تونس على مدى تسع عشرة حقبة تاريخية بدءا من القرطاجنيين وصولا إلى دولة الاستقلال ومرورا بالرومان والوندال فالفتح الإسلامي.. جميعهم اكتشفوا بعد طول أو قصر زمن أنهم لن يفلحوا في تغيير تونس فانتهوا إلى تغيير ما بأنفسهم كنوع من الاعتراف بحقيقة سرمدية مؤداها أن «البشر يتغير والحجر فقط لا يتغير»، والاكتشاف للشيخ الغنوشي أيضا.
في تلك «السياقات غير المنزلة» أيضاً انتقلت تركيا ناهضة «من الأربكانية إلى الأردوغانية».. وفي مثلها قال «فريديريك أوزنام» سنة 1848 لأول مرة جملته الشهيرة للعالم: «نعم. أعتقد في الديمقراطية المسيحية».. ثم جاء نضال مرير وطويل من أجل إلزام المسيحيين بالديمقراطية وحقوق الإنسان خاضه الأوائل من مريدي فكر «جاك ماريتين» حتى أصبح بإمكان العالم لاحقا أن يرى بالعين المجردة «الدومورو» و «إنجيلا ميركل» و «فيديل راموس» رجال دولة كبارا، وقد طلعوا من لبوس الأحزاب المسيحية الديمقراطية!
لكن العالم أيضاً قرأ وتفرج في رائعة «موليير» التي حملت اسم بطلها «تارتوف»، عنوان رجل الدين الذي يسعى لإشباع رغباته الدنيوية تحت عباءة الدين.. ويؤثر التونسيون من أمثالهم الشعبية «اللسان ما فيهش عظم» تعبيرا عن تفضيلهم لرؤية الفعل على سماع الكلام المعشق بما يطلبه المستمعون.. فيما يجد الشيخ راشد الغنوشي نفسه عند منتصف طريق طويل –بعبارة منار إسكندراني أحد أبناء النهضة الذين بادروا بقطع الطريق مبكرا – ولا عزاء لشورو واللوز ورفاقهما من «الصقور» الذين بدا لي أنهم يستعدون للقفز من السفينة وهي تتجه إلى مرفئها.. فهؤلاء يفضلون الغرق عنادا فيمن يحسن السباحة! 
من ثمة يحسن المرور بلا إبطاء إلى عملية نقد ذاتي موضوعية وواضحة تتنزل مكتوبة في أدبيات «النهضة» حتى تطمئن القلوب، وحتى لا تذهب الظنون مذاهب شتى ليس أقلها أن «مراجعات» الشيخ الغنوشي تكتيكية فرضتها سياقات الواقع الجديد، أو هي من قبيل حملة علاقات عامة كان لا بد أن تتلو غروب شمس الحكم عن «الترويكا».
فما دامت «السياقات غير منزلة».. كذلك هي الأقوال -حتى الموثقة منها- غير موثوقة.. فما الذي يمنع عودة «السياقات» إلى أسلافها الأوائل؟ تماما كما ينبئنا شعر أبو تمام عن الفتى الذي ينقل فؤاده حيث شاء من الهوى.. فيبقى حنينه لأول منزل!