قراءة سوداء لنصّ أزرق

 |"سفر" للقاص المغربي بشير اركي|

هل جرّبت أن تكتب متحررا من عين المتلصص على نزيفك، هل جربت أن تكتب عاريا من كلّ لبُوس، من كلّ ذكرى، عاريا من وطنك من رائحة الهوية فيك وفي كل الذين من حولك، متمردا على شكل التيمم الدائري، خارجا بعنف من عمامة الفقيه، ومن صبيانيته، متجرّدا من تلك الأشكال الهندسية التي تحاول كل مرة أن تدجنك، أن تجعل منك نكرة مطيعا. هل جرّبت أن تكون متعاليا، كي تستمع إلى نبضك بكامل الاهتمام والتصنت.

التقليد أن تردد ما تقوله الببغاوات، تلك الكائنات المخشبة التي لا تريد أن تسمو قليلا، تظل خانعة ومطيعة، وكأنها تحمي إلاهاً يغطُّ في نومةٍ داخل تابوت، من ضجيج الأطفال، لا تستمع بالحياة كما نحن، تفوّت عليها فرصا كثيرة كي تنعم بأسرارها وبتفاصيلها الموغلة في الدهشة والاستغراب، تحمل على أجسادها – تلك الكائنات – ندوبا لحرب ضروس خاضتها ضدّ كل المتمردين عن قدسية النص، وعن نواميس ضيقة تخنق الزفرة في قصباتنا الهوائية.

من رحم المأساة، ومن بقايا الإنسان الصّفر والمقهُور، ومن داخل كل وجع وجرح، يولد فينا شيء من الأنا، وكثير من النرجسية نستمدها من تيهان ذواتنا داخل المطاحن الهوائية، نوقّف الزّمن الذي ليس زمننا، ونبحث بنهم داخل مسالكنا البولية عن حيوانات منوية أخرى، قد تكون انفلتت بأعجوبة من محاولة اخصابها، نزرعها في أرحام حروفنا فتتولد لدينا الرغبة في العري والانسلاخ من كل شيء. رويدا رويدا نعيد خلقنا من جديد، وعند تشكلّ كل عضو فينا، تزداد رغبتنا في السّفر.

إننا نسافر كيْ نحيا، نسافِر كيْ نعانق بعضا ممن يشبهوننا بعيدا عن أعين العرّافات، وترّهات الشحاذِين ومزاجية النّفاثاث في العقد، نسافر نكايةً في قاعات الانتظار، نسافر كي نتعرف على وجوهنا الأخرى التي تشكلت فوق جثث محنطة، تأكل منها ديدان الحياة، وتنهشها كلاب كثيرة ضالّة تخرج ليلا، ونهارا؛ تمارس أنسنتها في الحياة. في كل "سفر" محاكمة لحرّاس المعابد.

من كلّ هذه الألوان القاتمة، خرج بشير اركِي بصرخة مسافر في الشعيرات الدموية لهذا الوطن الخرِف، ركِب صهوة القلم وشحذه، وبدأ يكسّر في أصنام القبيلة، طفلا كان، والأطفال أبرياء بالضرورة، فمن سيصادر حق هذا الطفل "بشير" في أن يكسر حتى لعبه ومن سيصادر حقه في أن يبول في فراشه، ويشخبط بالألوان، من يملك الحق في ذلك فلينهره ويمنعه من تكسير كاسيط أم كلثوم !.

عاريا وجسده مسجى فوق حرف مبثوث، أشعث الحلم وكثّ الأمنيات، لم يكن بشير اركي في "سفر" يختلق الحياة، لم يكن يبحث عن مبرر ليكتب عراءاته، بل كان يتعرى كي يحاكمنا ويحاكم فينا ضميرنا البُدائي والعنكبوتي، تعرّى كيْ تظهر حقيقتنا نحن، كم كنّا سذّجا ونحنُ نفتّش في شَعْر عانتنا عن أثر الوضوء، ولا نجد إلا ما تعلّق من روائح عرق نساء مررن ذات ليالٍ طوال دون أن ينتبه المخبرون. كم فرحنا.

وجوه كثيرة جالسناها واقتسمنا معها الطابا نوار وما جادت بها الأيام من كحُول ونحن نلتهم حروف وصور "سفر" بقدسية الشاهد على العصر، لم نكن أذكياء عندما اغلقنا الصفحة الأخيرة، دون أن ننتبه إلى نفسية طبيبة ما يزال الكاتب ينتظرها في المحطة مقاوما برودة المكان، وسادية اللحظة. هل كنّا ساديُّون؟.

لم تأخذ "ماريا" ما يكفيها من زاد المسافر، ماريا ليست ذكرى للأرشفة، هي نصفه المؤنث، أو هي كله وهو كلها، هي أحبتهُ، وهو المسكُون بكل هواجسها وأشيائها التي لا تدركها عينه المجردة، اختفت دون أن تلوّح في الزحام، في عينيه دموعٌ تحجّرت، يخالها السّذّج لؤلؤا.

من المُدان في كلّ هذه العراءاتْ؟

يقُول شاهدٌ على عراء الكاتِب، رفيق درب كتابته وصعلكته، وصاحب الرواية الشّيقة "طابا نْوار" علي الدّاه:

"سفر بشير، أراهُ سفرا لا تحكُمه أدبياتُ السّفر عند غيْره، سفرُ بشِير هو العَراءات التي سطّرها مُنْسلخاً من عَباءة من مرُّوا قبْله وما كسَّروا حواجِز الاخْتراق، أجدُ نفسِي في كلّ مرّة أركبُ هذا السّفر بجوازٍ آخر وهوية أخرَى، أجُوب كلّ الارْوقة ولا أخافُ شُرطيا هُناك يمنعُني من الاقْتراب أكثر من الشُّخوص التي نحثَها بشِير .

تيمَة العَراءات التي جاء بها الكَاتب كشكْل آخر يتبنّى التمرُّد على نمطِية الكِتابة، كان وقْعُها صَادما على العدِيد من الاقْلام التي تدَّعي النَّقْد وتجْنيس الاشْكال الابْداعِية المُتداولَة، العراءُ في كتاب "سفر" هو التجرُّد من سُلطة النّاقد نفسه، من مقصّ الرّقِيب الرّابض في نفسِية من يكتُبون، العراءُ هو ذاك الانْسياب في الصُّورة والوصف دُون قيد أو شرْط،هو الابْحار في عوالِم النّفس حيثُ الامْتداد اللامُتناهي، زُرقة "موكادور" هي النّفس الذي زوّد الكاتب بقوَّة الابْحار تلك.

صحفي من المغرب