راجت في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مقولة أن الأستعمار هو المسؤول عن مدى التخلف المريع الذي يمتد على كامل مساحة الوطن العربي في تلك الأونة, وكانت الملامح العامة تشي بصحة تلك المقولة وتؤكدها باسانيد وشواهد يعاني من يرفضها كثيرا وهو يجادل بشأنها

     كانت خريطة التعليم كما وكيفا  شديدة العوز , بينما كانت الخدمات الصحية شبه معدومة.. وهما من أفضل ما ترك الأستعمار وهو يرحل عن بلادنا العربية تباعا , منذ النصف الثاني من عقد الأربعينيات وحتى نهاية عقد الستينيات

     تزاحمت الأنظمة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار التى أتفقت (( رغم أختلافها )) على التقوقع الاقليمي والعمى عن قراءة المستقبل واعلان الحرب على التخلف ليس من وراء مقاعد التعليم  والجرارات والتصنيع الخ .. ولكن من خلف الميكروفونات

     بأستثناءات نادرة .. لم تكن التنمية هاجس تلك الأنظمة التى  تناسلت بطرق عجيبة ومثيرة للشفقة .. وانما تحرير فلسطين وسبته ومليلية  والجزر الثلاث , وهناك من يقول همسا بضرورة أستعادة عربستان ولواء الأسكندرون وصولا الى  الأندلس !!.. كان الجميع تقريبا غير مكترثين بنوعية التعليم (( أستنسخت جميع الاقطار العربية مناهج دنلوب الأنجليزي  التلقينية التى كانت معتمدة في مصر أنذاك )) أو زيادة الرقعة الزراعية أو بناء القاعدة الصناعية والبحث عن مفاصل المقدرات  أو الأعتماد على الرؤى العلمية في صياغة المشروعات العامة , والأنهمام بتوفير ما يستوجبه العمل الوطني لترميم ما خلفه الأستعمار الكويل والشروع في مأسسة ا البناء التنظيمى وفقا للأمكانيات والقدرات .. كان الجميع من حكام الأمة يعرفون بدقة  ما يرفضونه بالقدر نفسه الذي يجهلون به ما يرغبونه, وهي على اية حال  نفس الحالة التى عصفت بمعظم التجارب في دول  ما أتفق على تسميته بالعالم الثالث أو تهذيبا بالعالم النامي وهو ما دفع بها للتحول الى دكتاتوريات وأنماط من الحكم الأستبدادي

     بعد نصف قرن من رحيل المستعمر وسيطرة أهل الوطن العربي على مقاليد دوله لم يعد من الممكن التوكؤ على مشجب الأستعمار .. صار الأمر مثيرا ليس فقط للسخرية وانما للتقزز .. رغم ما تقذفه  الاذاعات العربية من تعليقات وتحليلات وأحاديث معلبة تغني لغير سامعين !! .. لم يعد الأستعمار مسوؤلا لاعن تردي الأوضاع التعليمية والصحية والخدمية الأخرى .. لم يعد الأستعمار مسوؤلا عن انعدام العدالة أو أرتفاع معدلات نزلاء المعتقلات والسجون والمستشفيات العقلية ومحطات العاطلين عن العمل

     الاستعمار الذي كان يجثم على الوطن الكبير أدرك وهو يخرج من الباب طوعا  أو قسرا أنه بوسعه العودة من النوافذ المشرعة دون أن يواصل تحمل ابعاد وتكاليف البقاء بالشكل القديم , أدرك المستعمر وهو يرحل بجحافل عساكره على بلاد الصهد والغبارأن بمقدوره العودة لممارسة الدور نفسه , ولكن هذه المرة عبر أصحاب الياقات البيضاء وربطات العنق والحصول على القدر نفسه من الكعكة العربية

     لم تتحرر فلسطين وانما ابتلعت بالكامل , ولن نتحدث بطبيعة الحال عن المناطق الأخرى, ولم تنجز التنمية , ولم يتحرر المواطن , ولم تتحقق العدالة , ولم يعد في ظل التطاحن على الفساد أية أمكانية للحديث عن مجتمع الوفرة والرفاه

     بالمقابل ارتفعت مؤشرات البطالة والجريمة والتسرب من التعليم الكسيح وعمل الأطفال والفقر في تزامن مع تصاعد معدلات الفساد المالي والأداري والأنهيار الأخلاقى .. دون أن يكون للاستعمار أي دور مباشر

     من المسؤول عن تحويل الوطن العربي الذي يزخر بأمكانيات  لا حدود تقريبا لمقدراتها الى مستودع للعاجزين والعاطلين عن العمل؟

من المسؤول عن تخريب قطاعات التعليم والصحة والضمان الأجتماعي والقطاعات الإنتاجية ؟

من المسؤول عن تفشي المخدرات والأوبئة المرافقة لأنتشارها ؟

من المسؤول عن النهب المبرمج للمال العام ؟

من المسؤول عن الأخفاقات المتوالية لبرامج التنمية ؟

من المسؤول عن التدمير الثقافي والرياضي والفني ؟

من المسؤول عن تفشي الغباء والكسل والتراخي ؟

لم يعد الأستعمار مسوؤلا عن أزدحام المحاكم بجميع أنواعها .. جرائم القتل والسرقة والأحتيال والسطو والأختطاف والتعذيب والتزوير والتدليس الخ الخ  وصولا الى الارتفاع الهائل في نسب الطلاق

من المسؤول عن تكدس جيوش  من الخريجين الذين لا يجيدون كتابة أسمائهم على الأرصفة ؟

من المسؤول عن التشويه الذي وصل الى الهوية .. حيث باتت اللغة العربية اشارات ورموزا مختلطة برطانات أخرى .. والأكل الى نماذج من وجبات سريعة أستوجب ظهورها في بلدانها الى أشتراطات سوق العمل ..والأزياء التى صارت ترسم وتصاغ وتفرض بذائقة لا علاقة لنا ولا للبيئة بها من قريب أو بعيد ؟

من المسؤول عن تفاهة الاعلام العربي وغباءه الاسطوري ؟

من المسؤول عن ظهور تلك الكائنات التكفيرية من كهوف التاريخ الملوث بسؤ النوايا ؟

من المسؤول عن تفشي الفتاوى التى ما أنزل الله بها من سلطان ؟

من المسؤول عن الأمراض الاجتماعية المذهلة , والكذب , والنفاق , والحقد , واستغوال النزعات الانتقامية ؟

من المسؤول عن تحول الوطن العربي الى ساحات مستباحة يجرب فيها الأمريكان والأنجليز والفرنسيس والأتراك والصهاينة والطليان ومن حالفهم أسلحتهم وغطرستهم وعربدتهم ؟

من المسؤول عن هذا الأحتقان المرير ؟

سيكون من السهل العثور على مشجب جديد نعلق عليه تلك المسؤوليات ,  ولكن ونحن نهرول  صوب الهاوية التى لا قعر لها .. والتى لا تليق الا بأمثالنا, ولا حول ولا قوة الا بالله

 

 

Mahmoud Albosifi

[email protected]