على ظهر الموت في عرض بحر مُر، يقرع حفيد (أبو القيس)* جدار الخزّان، وهو يحاول أن يتشبث بأنفاسه الأخيرة التي لم تسعفه  في أن تكون طوق نجاة، ليكمل سرد حكايته عبر رسائل بدأت بنداء استغاثة تخاطب الفضاء المطلق، قبل أن تتحول مع سكون الروح إلى رسائل خاصة جداً ..

(أنا يوسف يا أبي)*، أودّ وأنا على بعد شحمة أذن من الموت غرقاً، أن أسجل اعتذاري لك ولأمي التي رهنت مصاغها، كي توفر لي ثمن تذكرة لهذه الرحلة التي عما قليل سيسدل الستار على فصلها الأخير!

  آه يا أبي لو وُفقتُ في الوصول إلى عاصمة أوروبية، فما أحمل في جعبتي من لغات وشهادات يؤهلني للحصول على وظيفة مهمة وراتب كبير، استطيع به أن أساهم معك في تحمل أعباء دراسة أخوتي، كما أستطيع في المستقبل القريب بعد حصولي على الجنسية، أن أرسل تأشيرة لأخي الصغير، كي يتمكن من إجراء عملية جراحية في عينه اليسرى!

أتذكر في هذه اللحظات جدي (أبو القيس) .. لا أدري كيف استطاع القدر رغم فارق التاريخ والجغرافيا أن يجمعنا في خزان واحد! شيء ما يدفعني للضحك أمام حزمة من الأسئلة العبثية: كيف تتبدل الجدران من آن لآن؟ لماذا حين كان الجدار حديدياً التزم جدي الصمت، وحين قررتُ الصراخ اصطدمت بجدار خشبي؟

 

قبل تفتّح وعي السياسي، كانت تقودني العاطفة، فكنت في كل مرة أقرأ فيها قصة جدي التي خلدها الروائي الفلسطيني غسان كنفاني في روايته الشهيرة "رجال في الشمس"، أتبنى تساؤل (أبو الخيزران) "لماذا لم يطرقوا جدران الخزان" .. يا إلهي، ها أنا أدفع حياتي ثمناً للإجابة على هذا السؤال!

أبلغ سلامي لأمي .. لا أدري كيف تسللت رائحة خبزها الساخن إلى أنفي، إنه الجوع يا أبي، فالبحر مالح، والأرض بعيدة كأحلامنا المتطرفة، ولكن ما جدوى أن تسعفني الريح برغيف عابر، ما دام البحر سيقدمني عما قليل وليمة دافئة لأسماكه الجائعة!

أما جيراننا - أحفاد أبو الخيزران-  فلا تشغل نفسك بهم يا أبي، إن كانوا قد خانوا وباعوا، فقد خان وباع أب لهم من قبل!

قد تخلد قصة موتي في قصيدة شاعر أو رواية كاتب، لا يهمني ذلك، ما يهمني يا أبي أن تستفيق القطعان وتدرك أن (أبو الخيزران) ليس مجرد سائق فاقد الرجولة، أو صاحب مركب انتهازي، بل هو تلك الأنظمة التي تسعى إلى قتلنا كلما تصفحت وجهها في سيرتنا الذاتية، لا لشعورها بعقدة الذنب، بل لأن ملاحم الصمود والبطولة تذكرها بعقدة أخرى تشترك فيها مع (أبو الخيزران)! 

 _____________________________________________________

*أبو القيس وأبو الخيزران - أبطال رواية "رجال في الشمس" الرواية التي وثّق فيها الروائي الفلسطيني غسان كنفاني قبل واحد وخمسين عاماً سيرة الجرح الفلسطيني الذي مازال ينزف حتى هذه اللحظة !

*(أنا يوسف يا أبي) – عنوان قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش يقول فيها: يَا أَبِي إِخْوَتِي لاَ يُحِبُّونَني، لاَ يُرِدُونَني بَيْنَهُم يَا أَبِي. يُرِدُونَني أَنْ أَمُوت لِكيْ يمْدَحُونِي. وَهُمْ أَوْصَدُوا بَاب بَيْتِكَ دُونِي. أَنتَ سمَّيتني يُوسُفًا، وهُمُو أَوقعُونيَ في الجُبِّ، واتَّهموا الذِّئب، والذِّئبُ أَرحمُ من إخوتي..

 

رئيس تحرير مجلة صوت العرب - الصين