بطاقة تقنية للتعريف بالكتاب:

يأتي كتاب (الشخصية الليبية/ ثالوث: “القبيلة، والغنيمة، والغلبة”)، لمؤلفه/ الباحث التونسي: المنصف وناس، في مائة واثنتي عشرة صفحة، من الحجم الأدنى من المتوسط، صادرًا عن الدار المتوسطية للنشر، الكائنة بتونس، طبعة أولى، سنة ألفين وأربعة عشر.

قراءة في مضمون الكتاب:

اختار الباحث التونسي: المنصف وناس مسألة الشخصية القاعدية كمعيار فارز لبحث الشخصية الليبية، منصرفًا بذلك عن ما يمكن تسميته بالشخصية القومية، أو الوطنية، أو شخصية المجتمع، أو حتى شخصية المجموعة المتعايشة (القبلية)، أو شخصية الإنسان الفرد، محاولاً تبيان أهمية الشخصية القاعدة كمفتاح لبحث، وفهم الشخصية الليبية.

ومع ذلك، يستهل وناس كتابه بتقديم عام، أكد من خلاله أن ثمة من يُشكك في أهمية بحث مفهوم الشخصية القاعدية أصلاً، ويرى أن بحثها غير ذي جدوى من الناحيتين: العلمية، والعملية، ولا يسوق حججه للاستمرار في بحث الموضوع طالما أن هنالك من يشكك في دراسته، كما لم يدحض حجج المُشككين.

يرى –وهو ما نتفق معه بشأنه-أن الظاهرة الاجتماعية الواحدة، يمكن أن تقرأ من أكثر من زاوية، مما يُوجد قراءات مُتباينة، ومتعددة في الآن نفسه، لكنه ما يفتأ أن يعرض آراءً مُطلقية، وقطعيات لا يُمكن التسليم بها، في حقل علوم الإنسان، والمجتمع.

ونرى أن أول الانتقادات الموضوعية لكتاب وناس، تتمثل في كونه أطلق أحكامًا قطعية، مستندًا على تجربة غير ناضجة، وغير مكتملة، وجعل من ثلاث سنوات دليلاً على تقييم، وتقويم الشخصية الليبية، وهو الذي يفترض فيه، ألا يعزب عن باله أن ثلاث سنوات لا تمثل شيئًا في عمر الشعوب، وأن الدراسات السياسية، والسوسيولوجية لا يمكن بناؤها على مدة زمنية مُبتسرة.

يعرف وناس الشخصية القاعدية بأنها: (محصلة تراكمات تاريخية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية تمتد طيلة آلاف السنين، طَبعت الإنسان الليبي بطابع خاص، وأكسبته صفات معينة، وتحكمت إلى حدٍ ما في تمثّلاته للحياة، وسلوكياته، وخاصة في علاقاته الاجتماعية)، وهنا نلحظ أنه انتقل من تعريف الشخصية القاعدية كمعيار علمي، إلى إسقاطه مباشرة على الإنسان الليبي، مما يؤكد الانحياز العلمي المُسبق، ووضع الإنسان الليبي في بوتقة معينة، وخلع صفة التجريد عنه، وهو خلل منهجي إذ ينبغي وضع محددات الشخصية القاعدية على الإنسان الليبي، ودراسة مدى انطباقها على هذا الإنسان، لا أن يكون الإنسان ليبيًا لتنطبق عليه محددات تلك الشخصية.

يشير وناس إلى أن الجغرافيا الليبية، تعاقب عليها: (الفينيقيون، والرومان، والوندال، والإغريق، والبيزنطيون، والعرب المسلمون، والهلاليون، والأغالبة، والحفصيون، والعثمانيون، والإنجليز، والإيطاليون، والقرمنلليون)، ثم بين في الصفحة السادسة والأربعين أن المجتمع الليبي مكون من: (أصول عربية، وأمازيغية، وإفريقية، وتركية، وألبانية، وإغريقية)، ولم يُوضح أي هاتيك الأجناس حدث له تراكم امتد لآلاف السنين، حتى يُمكن تطبيق معايير، ومحددات الشخصية القاعدية عليه، ولم يبيّن تلاشي تلك الأجناس، أو ذوبانها في الحضارة الغالبة، وهي الحضارة العربية، والإسلامية التي سادت منطقة المغرب العربي.

قدم وناس نفسه مُتتبعًا للشأن الليبي، ثم أشار إلى أنه كان يعتقد: (لعقود خلت، أن تاريخ –الأحقاد، والذاكرة الدموية- المتوتر انصهر تمامًا في النسيج الذهني، والثقافي، والاجتماعي، والقبلي للمجتمع الليبي، الأمر الذي يُفسر ولو جزئيًا مستويات العُنف السائدة حاليًا)، ونرى من خلال هاته العبارة أن الباحث غير متتبع للشأن الليبي، أو على الأقل ليس لديه الدراية الكافية بدينامية المجتمع الليبي، إذ ليس بخافٍ على كل المهتمين مدى تنمية النظام الليبي السابق للقبيلة، وإحيائه المقصود لدورها، بل لا نبالغ إذا أعددناها الآلية التي كان يدير بها البلاد، من خلال التوازنات القبلية، ومراعاة مدى فاعلية القبيلة من عدمها.

يحدد المُنصف الشخصية الليبية بكونها شخصية قاعدية، أي بسيطة، وغير معقدة، ذلك أن المجتمع الليبي مجتمع قبلي، ويرى أن هذه الخصلة الأخيرة تجعل منه مجتمعًا يتسم بالفرادة، والخصوصية، ويغض الباحث طرْفه عن عديد المجتمعات العربية، والإفريقية المُماثلة للمجتمع الليبي، مما يدحض وصمه بالفرادة، والخصوصية.

ثم يعود ليؤكد على ما خالف اعتقاده بشأن انصهار القبيلة، بل بروزها كمكون رئيس، ولاعب أساس في المجتمع الليبي، حيث يقول: (ولكن القبيلة بقية مؤثرة في المعيش اليومي الليبي، وخاصة في العلاقات، والسلوك، وفي البنيات الذهنية).

زد على ذلك أن وناس، وهو يبحث عما يُعينه على فهم، ما وصفه بـ: (الانفجار الشعبي الذي حصل سنة 2011)، بالاعتماد على اعتبارات سياسية محضة، بل يتوجب: (العودة إلى خصائص الشخصية الأساسية، أو القاعدية التي تتحكم في السلوك العام، فلكل شعب من الشعوب شخصيته القاعدية التي تميزه عن بقية الشعوب الأخرى، وتمنحه خصوصيته النفسية، والثقافية، وتوجه سلوكياته، وعلاقاته اليومية في صلب المجتمع)، وهنا ملحوظتان أولهما: وعلى اعتبار الحضارة السائدة في المجتمع الليبي، هي ذات الحضارة في المجتمعات العربية الأخرى، فلماذا تم إهمال الإشارة إلى التقارب الكبير بين شعوب تلك المجتمعات، وعدم دراستها دراسة تأخذ في الحسبان الإطار العام لهاتيك المجتمعات، على غرار دراسة الجابري رحمه الله تعالى، الموسومة بنقد العقل العربي، أو دراسة طرابيشي المعنية بنقد نقد العقل العربي، أو توسع محمد أركون رحمه الله تعالى في نقد العقل الإسلامي، لإيمانهم بوحدة الحضارة.

وثاني الملحوظتين، تتمثل في إغفال دور التدخل الخارجي في الأزمة الليبية، والذي اضطلع بدور محوري، وكبير كانت له انعكاساته السلبية على الشخصية الليبية.

حاول وناس، وهو يتعاطى مع مجتمع مكون من عديد الهُويات كما مرّ معنا، أن يطبع الإنسان الليبي بطابع واحد، مع عدم تحديد المعيار الجامع لهذه الهُويات، وعدم الانتباه لحقيقة عدم التطابق، أو التماثل الهُوياتي، وإن ثمة وجود لمكنة التشابه، كما رأى أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة.

أيضًا أشار الباحث إلى أن مرحلة تاريخية ما قد تؤثر أكثر من غيرها في تكوّن، وتكوين الشخصية القاعدية، وأحسبه عدّ الثلاث سنوات الفارطة، فيصلاً في نحت الشخصية الليبية، وفي تشكيل بنيتها الاجتماعية، والثقافية، والذهنية، وهي مدة غير كافية لإصدار أحكام مطلقية، وقطعيات سوسيولوجية، كما أن ديناميكية الحياة، وما يطرأ من مستجدات تعمل على تغيير النمط المعيشي، لخير برهان على تعذر النظر إلى الشخصية الليبية في مرحلة محددة، وسحبها على كل المراحل.

ضبابية مفهوم البداوة لدى الباحث فيما يتعلق بالشأن الليبي، إذ ربما وقف عند تعريف البدو بأنهم الناس الرحل، الذين لا يستقر لهم قرار، في حين إن الواقع الليبي يشي ببداوة غير تلك البداوة، حيث القبيلة اليوم تمثل مدينة، ولها استقرار كامل، وتتعاطى مع أحدث أجهزة التقانة، وتمارس الرعي بأحدث ما أنتجت اليابان من سيارات، وغير ذلك من مظاهر الحداثة، التي لا شك أن لها تأثيرها على الذُّهنية القبلية، وتغيّر نمط سلوك البدوي.

أضف لذلك، يرى الباحث أن: (البداوة ترتكز على منظومة ثقافية سالبة تحقر العمل)، وهو استنتاج مغلوط، ومردود عليه، إذ للقبيلة قوانينها الحاكمة للعمل، وعقابها الصارم على تركه، فالعاطل في العرف القبلي مُستهجن اجتماعيًا، بل ومنبوذ، مما يؤكد تقديس القبيلة للعمل، وإن وُجد لديها التفاوُت في اختيار أنماط محددة من الحرف.

جاء في الكتاب أن القبيلة: (قاومت على طريقتها ما سُمي بالمشروع الثوري للنظام السابق “1969-2011″ الذي أنفق بسخاء من أجل تكوين قوى ثورية مقتنعة بهذا المشروع، وخاصة في منطقة برقة، والجنوب الليبي)، وهو أمر يؤكد ما ذكرناه قبلاً، وهو عدم الدراية الكافية للباحث بالمجتمع الليبي، فالقبيلة، أو فئة البدو لم يقاوموا المشروع الثوري للنظام السابق، بل على العكس تمامًا باركت القبيلة مشروع الفاتح الثوري، ورحبت به، وعملت على توطيد أركانه، فكان المجتمع ثوريًا قبليًا بامتياز، متماهية فيه القبيلة مع النظام السياسي، بل ورأت في مشروعه الثوري الضامن الوحيد لوجودها.

يُشير الباحث إلى ما سمّاه: (تغليب البدو على الحضر، والريف على المدينة، وجعل المجتمع برمته يعيش على إيقاع الصحراء)، وهو ما ينسفه واقع المدن الساحلية، حيث طرابلس، ومصراته، وبنغازي، ودرنة، …

وفي مفارقة مع الواقع المعيش، يؤكد الباحث على أنه: (تم العمل على استمالة قادة القبائل، والشيوخ، والأشخاص الذين من شأنهم التأثير في قبائلهم، وعشائرهم)، إذ الواقع عكس ذلك تمامًا، حيث مارس النظام السياسي تهميشًا مقصودًا للزعامات القبلية ذات الثقل الاجتماعي، وثم الاستعاضة عنها بشخصيات هشة، وبعضها ممّن لا قبيلة له أصلاً.

ذكر وناس كما أشرنا سلفًا أن القبيلة قاومت المشروع الثوري الذي قدّمه النظام السابق، مما يوحي بأن ذلك النظام لا يحظى بتأييد شعبي، وأنه مرفوض من أولئكم البدو، … لكن وناس سرعان ما عاد ليقول عنه: (كما فرح الليبيون بالنظام الجديد، وخرجوا في مسيرات شعبية دفاعًا عن الحكام الجدد، ومهما اختلفنا في القراءة، والموقف، فهذا المُعطى السياسي، والسوسيولوجي لا يمكن إنكاره بحال من الأحوال، إذا أردنا أن نكون موضوعيين)، وأردف قائلاً: (فقد حظي التغيير السياسي في الأول من سبتمبر بقبول شعبي ملحوظ، وتفاعلت معه الطبقة الوسطى –مع تحفظنا على وجود طبقات في المجتمع الليبي آنذاك-تفاعلاً إيجابيًا)، وفي هذا دليل على التناقض الظاهر بين أفكار الباحث، مما يبرهن على عدم درايته، أو إلمامه بكافة الجوانب المتعلقة بالشأن الليبي.

وعن تشكل معارضة ضد النظام الليبي السابق، يرى أنه قد: (بدأ القلق، والملل السياسي في الظهور، وبدأت حالات الإحباط في البروز، وتشكلت تدريجيًا في صلب النظام، وفي تخومه معارضات، وإن كانت قليلة من الناحية الديموغرافية، إلا أنها كانت رافضة للاختيارات القائمة، وتنامت هذه المعارضات بفعل الزمن إلى أن أنتجت تدريجيًا 17 فبراير 2011، المدعوم من الوضع الدولي المشجع له).

هنا تساؤلات عدة: فبداية يشير وناس إلى تشكل معارضات قليلة من الناحية الديموغرافية، ونحن نعلم أن تقييم أداء أي معارضة يتم عن طريق النظر إلى مدى فاعليتها، بقطع النظر عن كثافتها، وتعدادها أولاً، كما يمكن عزو قلة كثافة المعارضة، لقلة الكثافة السكانية ثانيًا.

ثم يشير في ذات السياق، إلى تنامي المعارضة، وظهور نتائجها حين أنتجت –كما يرى وناس- 17 فبراير 2011، وفي هذا مغالطة منهجية، وخطأ تاريخي، حيث إن تنامي المعارضات لا يكون بفعل الزمن، بل بتحسين الأداء، واستثمار أخطاء السلطة الحاكمة، وترهلها، كما يمكن معاضدة هاته المقاربة بوجود معارضات لأنظمة عربية ظلت سنين عددًا، وبدون نتائج تُذكر.

زد على ذلك أن وناس يؤكد على أن 17 فبراير 2011، من نتائج المعارضة الليبية للنظام السابق، ويكأنه يجعل الانتفاضة الليبية حالة متفردة، وليست مشابهة لما جرى في أقطار عربية أخرى، ويُصر على نسف كل ما قيل بشأن التخطيط الغربي المُسبق لهاتيك الانتفاضات، ولعبه الدور المباشر في الحالة الليبية، ليتأكد لنا، وللباحث أن لا دور يُذكر لما عُرف بالمعارضة للنظام السابق.

وأيضًا يقول الباحث: (يكون مُفيداً من الناحية المنهجية، اعتماد الشخصية القاعدية متغيّراً تفسيريًا لحالة الانتفاض هذه، فالشخصية البدوية بحكم طابعها الارتجالي، لا تحبذ الاستقرار، لأنه مرادف ببساطة للموت، والفناء في حين إن البدوي مُحب للحياة على شظفها).

من هذه الفكرة يستطيع القارئ أن يستشف الالتباس الذي وقع فيه وناس، من خلال الخلط بين الاستقرار المكاني، والاستقرار السياسي، أو الزعاماتي لدى البدو، ففي حين يجنح البدو إلى التنقل، والترحال، والبحث عن مواطن العيش (هذا التعريف الكلاسيكي للبدو، وهو منعدم بالنسبة للحالة الليبية)، وهو ما يُمكن تسميته باللا استقرار ، يحرص البدو كل الحرص على الاستقرار السياسي، أو الزعاماتي، حيث لا يوجد تداول على الزعامة القبلية، بل ربما تأبيد هاته الزعامة حتى الموت، وهو ما يخالف ما رآه وناس بشأن حب البدو لعدم الاستقرار.

كما أنه في الفكرة المتقدمة يبحث عن تفسير للانتفاض الشعبي، والذي يعزوه لحب البدو لعدم الاستقرار كما ذكر، إلا أن الواقع يدحض ذلك، إذ إن جل من اصطفوا مع النظام السابق هم من البدو، مما يؤكد حبهم للاستقرار السياسي، وعدم رغبتهم في الانتقال إلى واقع جديد مجهول بالنسبة لهم.

وفيما رآه بشأن: (قمع كل التعبيرات الثقافية غير البدوية، مثل المسرح، والسينما، والرسم، والنحت، وإخضاعها للأدلجة المُفرطة)، فإنني أتفق معه تمامًا.

المُنصف وناس، ومن خلال حديثه عن: (البدونة القسرية)، لم يوضح لنا هل البداوة نتيجة أم مقدمة، وهل هي سبب أم مُسبب، وبالتالي إخضاعها لقاعدة التأثير، والتأثر، ثم تبيان من أثر في من؟ هل النظام السياسي هو من مارس البدونة، وحاول تعميمها، أم هو ضحية هاتيك البداوة، ولم يجد بدًا من القضاء عليها؟ (ملحوظة: يرى ابن خلدون أن المغلوب يتأثر بالغالب، في حين يرى محمود إسماعيل أن الغالب يتأثر بالمغلوب، إذا ما مارسنا تطويعًا قسريًا للفكرة من حيث المغالبة بين الحاكم والمحكوم).

وكذلك –بحسب وناس-: (فالمنطق القبلي لا يسمح بالانحياز إلا للغالب، ولا يغامر بالانحياز للمغلوب، ولا يقامر بمناصرته، لأن مقياس التعامل مع الآخر ينبني على تشخيص دقيق للكسب، ومعرفة ذكية بمواقع الاستفادة)، مع أن هذا يدحض أولاً فكرة الواقعية التي حاول وناس التأكيد عليها أكثر من مرة في كتابه، وإن كان يؤيد ما ذهب له وناس في موضع آخر، وهو الذي يقول فيه متحدثًا عن الشخصية القاعدية البدوية: (بل قل براجماتية، أي تجيد استعمال قوانين الربح والخسارة)، لكن هذا لا يستقيم مع ما نراه في الحالة الليبية اليوم، من خلال اصطفاف القبائل الليبية مع النظام الليبي السابق في مواجهته لتدخل حلف شمال الأطلسي، وكذلك أيضًا تمترسها خلف ذات الموقف بعد إسقاط النظام، ونكرانها للهزيمة، وعدم رضاها بالأمر الواقع.

واكتفاء بوضع النتيجة دونما تكبد عناء البحث عن الأسباب، والمقدمات، يسوق وناس فكرة على أساس أنها مسلمة دقيقة، في حين هي ليست كذلك، وذلك من خلال طرحه أنه متى ما: (كانت مصراتة على سبيل المثال موالية، فإن خصمها أي ورفلة تختار معسكر الجهاد، والمجاهدين، الأمر الذي يؤكد بأن القبائل تجيد تبادل المواقع، وتغيير التحالفات، حسب المكسب المنتظر)، ويُضيف: (ولذلك ترى أفراد القبيلة متكاثفين، ومتضامنين، وكأنهم على قلب رجل واحد حينما يتعلق الأمر بالانتصار على الخصم، وأخذ الثأر منه)، وهنا يتجاوز وناس كم الانقسامات داخل كل قبيلة، مما يُفند رؤية وناس الزاعمة بأن الخلاف الليبي، إنما هو خلاف قبلي اجتماعي، ويؤكد بأن الخلاف خلاف سياسي بامتياز، وأنه لا يمكن اعتبار قبيلة ما في طرف معين، حيث وُجد في كل قبيلة من يمثل الطرفين المتصارعين.

يرى وناس في معرض حديثه عن الغلبة، أن القبيلة لا يمكن: (أن تتخلى عن عقلية الثأر، وإلحاق الأذية بالخصوم، والمعارضين، والحسم معهم اعتمادًا على العنف، وحتى على القتال، مثل ما يحصل الآن في ليبيا منذ أكثر من سنتين)، وهو الأمر الذي لا يمكن التسليم به في ظل معطيات الواقع، حيث رأينا أن الفئات المحسوبة على البدو في صف الطرف المنتصر، ركنت للسلم، والعفو، وجنحت إلى التصالح، كما فعلت قبائل برقة مثلاً، في حين ارتهنت إلى ممارسة الثأر، وجماعية العقاب، الفئات المحسوبة على الحضر، مما يبرهن على عدم مصداقية الدراسة في هذا الجانب، ويتطلب دراسات أكثر جدوى.

كما يرى وناس: (أن الاستعانة بالحلف الأطلسي إبان الانتفاضة الليبية سنة 2011، كانت من أجل كسر شوكة الخصم القبلي)، وهذا يوشي بأن الباحث غير مدرك لمعطيات السياسة الدولية، مما أوقعه في توهم أن التدخل الخارجي، إنما جاء لمناصرة طرف على أطرف، مُنخرطًا في صراع قبلي، وهو حديث يصل درجة السذاجة العلمية، متناسيًا أن الدول لا تحرك ترساناتها لأهداف نبيلة، وإنما قصد تحقيق مصالح منظورة، أو غير منظورة، وبالتالي فإن التدخل الخارجي لم يكن يعنيه أي الأطراف ينتصر، بمقدار ما يعنيه أين تكمن مصالحه.

وعودًا على ذي بدء، بخصوص الحديث عن الواقعية البدوية، يقول إنها: (تعني كذلك القبول بالأمر الواقع، والتسليم به، بل قل التلاؤم معه، كما تعني هذه الواقعية السوداء مهادنة السوء، والسعي للاستفادة منه، ولمزيد تقريب هذه الصورة، نشير أن هذه المهادنة أفضت إلى أن تداول على السلطة في المنطقة العربية حكام أشرار، أنتجوا ما أنتجوا من إخفاق، وفشل، وأذية جماعية)، وهنا أمران: حيث الأول –وكما رأينا-أن البدو لا يقرون بالواقعية، بل على خلافها تمامًا، ولو كانت القبائل البدوية تُهادن السوء –والحديث عن الشخصية الليبية- لما استمرت الحرب حتى اللحظة، ولكانت اعترفت بالهزيمة، وهادنت السوء، الممثل في النظام الهش، لكنها ناصبته العداء، ولم تهادنه، مما أوجده في عزلة صارخة، وثانيًا، يطرح الإشكالية العامة، وهي أن من تداول السلطة في المنطقة العربية حكام أشرار، يفند ما رآه من خصوصية، وتفرد للمجتمع الليبي.

في موضع آخر، يقول وناس: (تعطيك الشخصية البدوية انطباعًا بالهدوء، والدماثة، وخاصة التدين)، وهو ما ناقض وصفه للبداوة بتعبير: (الشخصية البدوية بطبعها الارتجالي)، وتارة: (الانفعالي)، ما يجسد صورة قطعية في متخيل القارئ، بشأن عدم ترابط أفكار الكتاب.

ويؤكد وناس بصورة قطعية أنه لقد: (جرى إقصاء مدن، وبلدات بكاملها من التنمية، والريع البترولي، ومن الخدمات، وتم إهمالها)، ثم يسترسل قائلاً: (على الرغم من أن مدناً مثل بنغازي، ومصراتة تمتعت بقدر نسبي من الاستثمار، والمشاركة في السلطة، لكنها كانت في طليعة المعارضة المسلحة)، وهنا نتساءل: عن ماهية المدن التي أُقصيت بالكامل؟ وعن آلية الإقصاء المتبعة بشأنها دون مدن أخرى؟ وهل يستقيم هذا التفسير مع ما وصف به مصراتة من كونها المدينة المدللة في المرحلة السابقة، بأن تكون في طليعة المعارضة المسلحة، وكأنها قد حرمت من الريع البترولي؟ اللهم لا براهين على هاته المزاعم، سوى إتباع الجوقة السائدة في الإعلام العربي.

وحسب ما يرى وناس فإنه: (يكون مفيدًا … أن نفكر في بناء مقاربة أنثروبولوجية بين البداوة الليبية، والبداوة الخليجية، فهذه الأخيرة مستفيدة شديدة الاستفادة من الريع البترولي، وهي مندرجة في إطار المنطق الزبوني، أي مقايضة الولاء بالمنافع المادية، وحريصة على علاقة وطيدة مع نُظم الحكم المختلفة، ولكنها تتمتع بقدرة واضحة على فرض نوع من الاستقلالية، ومن الحصانة الاجتماعية، لا تسمحان لها بالتورط في القمع السياسي، وفي الصراعات بين الحكام ومعارضيهم،…).

هذا النص كفيل بدحض مزاعم الموضوعية، من خلال المغازلة الظاهرة لأنظمة الحكم الخليجية، حيث يرى الباحث أن البداوة الخليجية مستفيدة جدًا من الريع البترولي، وهو أمر لا يستقيم إلا إذا قصد الباحث الطبقة الحاكمة، وقطع النظر عن المحكومين، فإضبارات، وتقارير المنظمات الدولية تبرهن على التفوق الليبي في معدلات التنمية، والاستفادة من الثروة، ثم يتجاهل القمع السياسي الذي حدث في بعض دول الخليج (البحرين مثلاً)، وبمباركة المجموع الخليجي، وننأى بأنفسنا عن البحث في النية المضمرة لدى الباحث من خلال إصراره على الريع البترولي كمؤثر وحيد، متجاوزًا كل مؤثرات بناء الشخصية، كالبيئة، والموقع الجغرافي، وطبيعة نظام الحكم، والمؤثرات الإقليمية، والدولية …

وفي مجال التراكم، وتعريف وناس للشخصية القاعدية بالتراكمية، يرى أن: (بنية هذه الشخصية القاعدية من الناحية النفسية، والذهنية تُشجع القطيعة بين الأجيال، وعدم تراكم الخبرات في صلب المجتمع)، وكما يعلم المتخصصون أن الشخصية الليبية، وأي شخصية قاعدية فإما أن تكون تراكمية، أو تكون قطيعية، ولا يستقيم أن تكون تراكمية، ومُشجعة على القطيعة في ذات الآن، زد على ذلك أن جل ما يعانيه الباحثون في التراث العربي، هو عدم قدرة الذهنية العربية، والعقل العربي على إحداث قطيعة إبستمولوجية مع العادات العالقة، والمجرورة جيلاً بعد جيل، وما حمل البدو لخصلة الثأر إلا دليل قاطع على أنها شخصية لا تُشجع على القطيعة.

ويرى وناس أن: (الدولة الليبية عاشت على امتداد عقود أربعة دون تراكم وثائقي، ودون أرشيفات منظمة، ومُحينة، وقابلة للاستغلال السريع، بل إن جزءً مهما من الأرشيفات التاريخية تعرض هو الآخر للتلف)، وهنا لا نعلم ما الذي دعا الباحث إلى الحديث عن الأرشيفات خلال هذه الفترة فقط، ولم يتوسع إلى ما هو أبعد من ذلك، أو يجتزئ من هذه المدة، زد على ذلك أن الأحدث الأخيرة برهنت على وجود أرشفة دقيقة، من خلال ظهور جل الوثائق التاريخية، بما في ذلك الوثائق التي غلب الظن على تلفها، وما استشهاد الباحث بالعبث ببعض الأرشيفات في مناسبات معينة، إلا لكونه لم يدرس تلك المناسبات في ظل سياقها التاريخي، والحضاري.

يعود المنصف وناس ليقطع صلة الداخل الليبي، بمحيطه الخارجي، حين يرى: (أن الذاكرة الدامية أعاقت إلى حد كبير التحوّل السياسي، والديمقراطي في ليبيا الراهنة)، وهي الفكرة التي يمكن صياغتها من خلال التساؤل عن تأثير القوة الإقليمية، والدولية على التحول السياسي في ليبيا، وإذكائها للصراع الدامي في ليبيا من خلال دعم بعض الأطراف ضد الأطراف الأخرى.

نتفق تمامًا مع ما ذهب إليه الباحث، من تقسيم التحديث إلى نوعين: الأول سريع وسطحي، والثاني عميق وإستراتيجي.

كما نتفق معه في أن: (التحديث الثقافي العميق لم يكن ناجعًا على الرغم من كل الاختيارات الثورية التي سادت العقود الأربعة الأخيرة)، ولكن نخالفه قوله، أو على الأقل ننكر عليه عدم المقارنة بمجتمعات عربية أخرى فيما يتعلق بـ: (وضعية المرأة التي بقيت سلبية، وقريبة من الحالة الدونية)، ذلك أن المرأة في المجتمع الليبي –مع التسليم بدونيتها عن المرأة في المجتمع التونسي-لكنها تتفوق على المرأة في مجتمعات عربية أخرى، حال الباحث عدم التعرض لها، إفراطًا في مغازلتها.

رأى الباحث، أن: (ليبيا تعيش مراجعات ثقافية حول الهُوية، واللغة، والثقافة، والعروبة، والإسلام)، وهنا نوافقه الرأي، إذا بقيت ليبيا موحدة، وسلمت من حالات التيه، والتشظي.

أخيرًا، فلقد عدد الباحث سبع خواص للشخصية القاعدية، التي رأى انطباقها على الشخصية الليبية، جعل ستة منها حصرًا على الشخصية الليبية، مع مقاربات على استحياء مع الشخصية العربية لأقطار عربية تلميحًا، لا تصريحًا، في حين رأى اشتراك الشخصية الليبية، مع الشخصية التونسية في الخاصية السابعة، والممثلة في القابلية لإعادة البناء، في نسفٍ صريح للموضوعية المدّعاة من قبل الباحث في بداية الكتاب.

ونختم بأن الباحث المنصف وناس قد خبط خبْط عشواء، ولم يكن في هذا الكتاب مُنصفًا، بل ربما كتب من باب، أنا أكتب، فأنا موجود، لولا عُذر عدم إدراكه التام بالواقع الليبي، وحسبه أنه حاول رمي حجر في ماء آسن بكل تأكيد، وأيضًا حاول استفزاز بعض الباحثين للخوض في هذا الموضوع.

 

باحث وكاتب ليبي