راية الوطن مع أنّها رمز الاستقلال للدّولة، ووحدتها الوطنية، لكنّ لكلّ قاعدة استثناء؛ فراية الوطن عندما ترفع من قِبل الأقليات التي يحتويها الوطن؛ فرفعها قد يكون لأسباب الضرورة أو المغالبة، وعندما ترفع راية الوطن بهذه العلل من قِبل الذين ينتمون لأصول عرقية متباينة تكون معرّضة لرفع البديل متى ما اكتسبت الأقليات قوّتها.

فليبيا في فترات النضال الطويلة والمريرة من أجل نيل الاستقلال الوطني، استظل شعبها برايات ثلاث لأقاليم ثلاثة في دولة واحدة (المملكة الليبية المتحدة) حتى 26 أبريل 1963 حين عُّدل دستور الاستقلال في 24 ديسمبر 1951م، فأصبحت راية الاستقلال هي الرّاية وحدها، ولا راية غيرها ترفع معها، إنّها راية (المملكة الليبية). ومع ذلك؛ فتلك الرّايات لا شكّ أنّها لا زالت ماثلة في أذهان البعض الذين يحلمون بالسّيادة الخاصّة (الإقليم) جنبا إلى جنب مع السّيادة العامّة (الوطن).

ولأنّه التّاريخ، كانت الرّاية السوداء ذات الهلال والنّجمة علما لإمارة برقة في مرحلتين: الأولى: في مرحلة الحكم الذاتي في عهد الاستعمار الإيطالي (حكومة أجدابيا)، والثانية: حينما استقلّت برقة في أكتوبر 1949م. وكان علم الجمهورية الطرابلسية (1918–1923)، يتألف من خلفية زرقاء سماوية، وفي وسط العلم نخلة تعلوها نجمة بيضاء. أمّا إقليم فزّان؛ فلم يكن له علمٍ مميّز قبل الاستعمار الإيطالي سوى علم الدّولة العثمانية (العلم الأحمر ذو الهلال والنجمة).

وإلى جانب هذه الرّايات الثلاث، هناك راية رابعة وهي: راية الأمازيغ المتكوّنة من ثلاثة ألوان (الأزرق والأخضر والأصفر، ويتوسط الألوان الثلاثة حرف الزاي بالأمازيغية). فليبيا عبر التاريخ، شعبها لم يتذوّق طعم الحرّية قرونا طويلة (قبل الميلاد وبعده)، إلّا بعد أن حرّر الأجداد والآباء تراب الوطن (ليبيا) عام 1951م، دولة وطنية لكلّ الليبيين بمختلف ألوان طيفهم، فكان نشيدهم الوطني يعلو مع راية الاستقلال، إلى أن جاء ذلك التغيير لذلك النشيد الوطني، وتلك الرّاية الوطنية، في 1/9/1969م، وتمّ تغيير اسم المملكة الليبية إلى (الجمهورية العربية الليبية) وأخذت لها راية ذات ألوان ثلاثة (الأحمر والأبيض والأسود) ثمّ غُيّرت تلك الرّاية بأخرى عام 1972م (راية اتحاد الجمهوريات العربية) ثمّ، غُيّرت الرّاية مرّة أخرى عام 1977م  براية خضراء اللون، ولا شعار فيها.

دولة تجمع رايات أربع، إلى جانب راية جديدة رُفعت بعد 17 فبراير 2011م، وهي راية (أنصار الشريعة) ألا يكون وراء كلّ راية علّة قد تحفّز الضعفاء في الداخل، والطامعين من الخارج على ما يدور في دائرة الممكن المتوقّع وغير المتوقّع من أطماع وسياسات؟

بعد أنْ قرأ مسترق السمع (الشيطان الوطني) ما قرأ، كان على الفور في الجنوب الليبي ضيفا ثقيلا على بعض من قبيلة التبو، أين أنتم؟ وإلى متى ستظلون غرباء؟ فأنتم اليوم أصبحتم قوّة تربط شمال دولة تشاد بقلب الجنوب الليبي، فارفعوا رايتكم إن كانت لكم راية، وإن لم تكن لكم راية؛ فعليكم بها، وإلّا الليبيون سيقررون ما لم يكن في حسبانكم... فكان لسان أحد زعمائهم: ألم أقل لكم من قبل ما قاله لكم هذا الضيف المحايد؟

فقال البعض: نعم حان وقت التفكير في راية خاصّة بهويّتنا، تجمع في ألوانها من الألوان ما ينسجم مع راية تشاد، وراية الأمازيغ، وراية إقليم برقة، والجمهورية الطرابلسية، وشيئا من راية الاستقلال.

وتساءل آخر: وأين راية الجنوب؟ فكانت الإجابة من ذلك الضيف: أنتم الجنوب، ولا غيركم؛ فأنتم قوّة تستطيع أن تجوب أراضيه مدنا وقرى وصحارى؛ فلا تتردّدوا، ولا تكونوا جبناء؛ فأنتم اليوم سادة الجنوب، ومع ذلك عليكم بعقد التحالفات فقبائله العربية إن قررت الموت تكتب لها الحياة.

صفّق البعض للضيف، وبهجة أنفسهم تكاد أن تنطق مع ذلك الحديث مختلط اللغة واللهجة (ليبتشادي)؛ فكانت الاحتفالات والرّقصات الفنية بتوجيه ضابط الإيقاع لسيمفونية ذات أبعاد ثلاثة (ليبي تشادي فرنسي) لترسم خريطة الرّقص لليبيا على رمال الجنوب. والسيمفونية الموسيقية في قمّة عزفها رفع الضيف صوته: أسرعوا يا أبناء التبو، واضغطوا على المكوّنات السياسية الليبية؛ فهي في حالة ضعف، ولا تستطيع أن ترفض مطالبكم، وستقدّم لكم مزيدا من التنازلات؛ فارفعوا سقف المطالب، لقد جاءت الفرصة تسعى إليكم قبل أن تسعوا إليها؛ فحان وقت إعادة صناعة التاريخ في الجنوب، ومن ثمّ، ستعرفون أنّ أمواج البحر عندما تقبّل اليابسة لا تقبّلها إلّا من أجل الترحاب بكم.

ثمّ توجّها الشيطان الوطني إلى قبائل الطوارق، وهو يقول: يا طوارق الجنوب، يا أهل الصحراء الواسعة، يا من ناصر أجدادكم رسول الله، أحرصوا على وحدتكم، وهويّتكم، وسمعتكم التي ستنتهي ما لم تتخذوا لها راية تميّزها عن راية الامازيغ، وأنصحكم بالعصبيّة؛ فبالنسبة لكم لا فرق بين أمازيغي وعربي، فأولئك جميعهم لم يكونوا طوارق، ولن يقبلوا بذلك، ومن ثمّ؛ فعليكم بهويّتكم، وإلّا ستجدون أنفسكم غرباء بلا هويّة؛ فقبائل الأمازيغ متعصّبة لهويّتها، والقبائل العربية (مدن وقرى وبوادي) متعصّبون لهويّتهم، وقبائل التبو متعصبون إلى النخاع، إلّا أنتم مضحوك عليكم، ولن يكون لكم شأن إن لم ترفعوا راية بها تتميّزون عن غيركم، وإلّا ستصبحون في خبر كان.

معك حقّ، إن لم نفعلها لا شكّ أنّنا سنصبح في خبر كان مشتّتين، بين جزائريين، ونيجيريين، وتشاديين وماليين، وتونسيين؛ فنحن طوارق ليبيا، وينبغي أن تكون لنا راية كغيرنا من الليبيين، ويوم أن يقرر الجميع الاستغناء عن راياتهم؛ فنحن أوّل من يتخلّى عنها وطنيا.

ها انتم على الطريق، ولكن أوصيكم بالتخلّص من تلك الأخلاق (الصدق والأمانة والوفاء، والإيمان والشّجاعة، والكرم) وحرروا عقولكم وأنفسكم وقلوبكم وضمائركم من سيطرتها؛ فأنتم تحت سيطرتها مستعمرون، ولا حرّية لكم، ولن تبلغوا مكامن السياسة، ولن تتقدّموا.

قال بعض من الطوارق الكرام: يا إلهي، وكأن السياسة بلا أخلاق! وأصحابها بلا ضمائر! وقال البعض الآخر: علينا بأنفسنا، وعلينا بإيجاد راية نستظل تحتها، ولو أخذنا تلك الرّاية التي رفعها شيخنا (شيخ الأنصار) سعد بن عبادة، شاءت فرنسا أم لم تشاء، وشاء غيرها أم لم يشاء؛ فليبيا اليوم أصبحت ذات رايات متعدّدة، ولا فارق أن ترفع في سمائها راية أخرى، وللوطن ربّ يحميه. ومع ذلك قال عاقلهم: ألم يكن منكم رجل رشيد؟ يقول: حافظوا على وحدة ليبيا، واعملوا على تعظيم رايتها الوطنية دستورا؟

ثمّ توجّها مسترق السّمع إلى الشّرق الليبي، يا أهل الشّرق: ما لكم ومُتعة الموت من أجل وطن متفرّق الرّأي والاتجاهات والسّياسات، ومالكم والنّضال من أجله، وأنصحكم بالنّظام الفيدرالي الذي لا مخلّص سواه من تبعيتهم التي أخّرتكم عقودا من الزّمن، ويا ليتكم تنفصلون.

فقال أهل الشّرق: استغفر الله، لو كُنّا نود انفصالا لانفصلنا منذ تلك السنين (سنوات الاستقلال) فإقليم برقة استقلّ عام 1949م وظل في جهاده الوطني منتظرا حتى تمّ استقلال إقليمي الوطن (طرابلس وفزان عام 1951)، وهكذا هو التاريخ يعيد نفسه وطنيا؛ ففي 17 فبراير؛ نحن في إقليم برقة حسمنا امرنا ثورة في أربعة أيام دون أن يقاتل بعضنا البعض، وبقينا أخوة مترابطين ننتظر أخوتنا حتى يحسم الخلاف والاختلاف بينهم على بقية تراب الوطن، ولذا فلا يمكن لنا أن نكون انفصاليين، ولكن الفيدرالية لا تزيد عن كونها نظام إدارة شؤون بلا مركزية، ومع ذلك هناك الكثر من أبناء الإقليم لا يرون ذلك.

توجّها (الشيطان الوطني) لأهل الغرب: يا أهل الغرب: أهل الشّرق كلّفوني بقولٍ لكم يصعب علىّ قوله، ولكن حتى لا أوصف بخيانة الأمانة من قِبل أولئك البدو، لا مفرّ لي من قوله، يقولون عنكم: أنتم أهل مدنية لا خير فيكم، كما أنّهم يتهمونكم بالميل لحزب على حساب مصلحة الوطن. 

يصعب علينا أن نصدّق... صدّقوا أو لا تصدّقوا، هكذا أنتم تجهلون حقيقة أمرهم. اللهم إني بلّغت.

أستغفر الله العظيم، إخوتنا الأعزاء لا يقولون هذا! بل هم يعرفوننا وطنيون كما نعرفهم وطنيون، نحن معهم، نحن معهم، وطن واحد لشعب واحد؛ فنحن سكان العاصمة، والعاصمة للجميع، ولا نرى جمالا لليبيا إلّا بجمال ألوان طيفها، (عرب، وأمازيغ، وطوارق، وتبو) والدّين واحد (الإسلام)، وهذه الألوان عبر التّاريخ لم تكن ليبيا جميلة إلاّ بها.

ومع أنّ جمال ليبيا بتنوّع ألوان طيفها، لكن تعدّد الألوان في بعض الأحيان يجعل الرّغبات والمطالب عبء على هويّة الوطن، وبخاصّة عندما تصبح الرّايات المرفوعة والمطالب التي من ورائها على حساب راية الوطن. ولذا؛ فإنْ تعدّدت الرّايات في الوطن؛ فلا ضابط لإيقاع نشيده، ولا يعدّد الرايات فيه إلا الدماء بين الأخوة، الذين جاهد أجدادهم تحت رايات ثلاثة وتوحدوا من أجله تحت راية واحدة، فياليتهم يتذكرون.

 

وزير ليبي سابق